وأجابوا عن قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت بأن المعنى: يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وجملة الناسخ والمنسوخ: «عنده في أم الكتاب». وقيل غير ذلك. ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص، وكل أقوالهم دعاوى مجردة.
ولا شك: أن المحو والإثبات عامان لكل ما يشاء الله، فلا يجوز تخصيصهما إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله عز وجل بما لم يقل.
[ ص: 391 ] وأجابوا عن قوله تعالى: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب : بأن المراد «بالمعمر»: الطويل العمر. و«بالناقص»: القصير العمر، وفي هذا نظر؛ لأن الضمير في قوله «من عمره» يعود إلى قوله «من معمر» هذا ظاهر معنى النظم القرآني. وقيل غير ذلك من التأويلات التي يردها اللفظ ويدفعها.
وأجابوا عن قوله: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده : بأن المراد «بالأجل الأول»: النوم. «وبالثاني»: الوفاة. وقيل غير ذلك، مما فيه مخالفة للنظم القرآني.
وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص، واستدلوا بالآيات المتقدمة؛ فإن المحو والإثبات؛ عامان يتناولان: للعمر، والرزق، والسعادة، والشقاوة، وغير ذلك.
وقد ثبت عن جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم، أنهم كانوا يقولون -في أدعيتهم-: اللهم! إن كنت كتبتني من أهل السعادة، فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة، فامحني وأثبتني في أهل السعادة.
ولم يأت القائلون «بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك» بما يخصص هذا العموم، والكلام في هذا البحث يطول جدا، والأحاديث القاضية «بأن صلة الرحم» تزيد في العمر صحيحة كثيرة.
[ ص: 392 ] وإذا تقرر هذا عرفت أن العمر محدود، ومعلوم، لا يتقدم ولا يتأخر، إلا إذا وصل الرجل رحمه مثلا. فحينئذ مد الله في عمره وزاده. وهكذا حكم سائر الأمور التي وردت الأدلة بأنها تزيد في العمر، أو تنقص منه، أو تزيد في الرزق، أو تبدل الشقاء بالسعادة، لأنها خاصة، والخاص مقدم على العام.
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، وطالت ذيوله، وتشعبت فصوله (في دفع التعارض بين ما ورد من الآيات والأحاديث في أن القضاء الأزلي لا يتبدل ولا يتغير، وهو المعبر عنه بأم الكتاب، وبين ما ورد من الإرشاد إلى الأدعية، وطلب الخير من الله عز وجل، وسؤاله أن يدفع الشر، ويرفع الضر، وسائر المطالب التي يطلبها العباد من ربهم) .
والحق (في هذا المقام) ما أشرنا إليه، والبحث في هذا أطاله العلامة الشوكاني في الفتح الرباني، وذكر أدلة الفريقين، وحرر المحاكمة بين الجماعتين. فراجعه.
وبالجملة: فالكتاب العزيز، والسنة المطهرة المتواترة الكثيرة الطيبة ترد على المؤولين القائلين بعمومها، والرادين خصوصها ردا أوضح من شمس النهار.
[ ص: 393 ] وقالت طائفة: إن الأقضية على نوعين: مطلقة ومقيدة.
فالمطلقة: ما لم تكن مشروطة بشروط واقعة، وإلا فلا، وهذا القول -وإن كان مردودا مثل الأول- إلا أنه أقل مفسدة منه، وإن كان رأيا بحتا ليس عليه دليل، والمقام يحتمل بسط القال والقيل، فلنقتصر على هذا المقدار القليل، ففيه كفاية وهداية إلى سواء السبيل.