أي ذكر الله عز وجل: باللسان، بالذكر المرغب فيه شرعا، والإكثار منه؛ كالباقيات الصالحات، والحوقلة، والحسبلة، والحمدلة، والاستغفار، وقراءة القرآن (بل هي أفضل) ، والحديث. ومدارسة العلم.
وهل يشترط: استحضار الذاكر، لمعنى الذكر، أم لا؟.
[ ص: 536 ] المنقول: أنه يؤجر على الذكر باللسان، وإن لم يستحضر معناه.
نعم ! يشترط أن لا يقصد به غير معناه.
والأكمل: أن يتفق الذكر: بالقلب واللسان.
وأكمل منه: استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه: من تعظيم المذكور، ونفي النقائص عنه، تعالى.
(عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ) رضي الله عنه؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: يقول الله، عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي) .
قيل: المراد به: ترغيب من الله عز وجل، لعباده: بتحسين ظنونهم به، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيرا: أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، ونثر عليه محاسن تكرماته، وسوابغ عطياته.
ومن لم يكن في ظنه هكذا: لم يكن الله له هكذا. وهذا هو معنى "كون الله سبحانه، عند ظن عبده به".
فإن هذا وعد من الله، عز وجل - وهو لا يخلف الوعد -، وخبر منه لعباده - وهو صادق المقال على كل حال -.
وما أحسن ما كان يدعو به: الخليفة العادل، nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز "رحمه الله". فإنه كان يقول: يا من وسعت رحمته كل شيء ! إني شيء. فلتسعني رحمتك. يا أرحم الراحمين ! هكذا في (تحفة الذاكرين) .
وقلت أنا: يا من كتب على نفسه الرحمة، لعباده ! إني من عبادك. فارحمني. يا أرحم الراحمين !
قال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض : معناه: أنا عند ظن عبدي بي (بالغفران له) : إذا استغفر، والقبول: إذا تاب. والإجابة: إذا دعا. والكفاية: إذا طلب الكفاية.
[ ص: 541 ] وقيل: المراد به: الرجاء، وتأميل العفو. وهذا أصح. قاله النووي .
قلت: ولا مانع من إرادة الجميع. والأول أولى، وهو ظاهر الحديث.
(وأنا معه حين يذكرني) فيه تصريح: بأن الله "سبحانه" مع عبده، عند ذكره له. ومن مقتضى ذلك: أن ينظر إليه برحمته، ويمده بتوفيقه وتسديده.
فإن قلت: هو مع جميع عباده، كما قال سبحانه: { وهو معكم أين ما كنتم } . وقوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية.
قلت: هذه معية عامة. وتلك معية خاصة، للذاكر على الخصوص، بعد دخوله مع أهل المعية العامة. وذلك يقتضي: مزيد العناية به، ووفور الإكرام له، والتفضل عليه.
ومن هذه المعية الخاصة: ما ورد في الكتاب العزيز، من كونه: "مع الصابرين". وكونه: "مع الذين اتقوا". وما ورد في هذا المورد: من الكتاب، والسنة. فلا منافاة: بين إثبات المعية الخاصة، وإثبات المعية العامة.
[ ص: 542 ] ومثل هذا، ما قيل: إن ذكر الخاص بعد العام: يدل على أن للخاص مزية، اقتضت ذكره على الخصوص، بعد دخوله تحت العموم.
وقال النووي : معناه: أنا معه بالرحمة، والتوفيق، والهداية، والرعاية.
قال: وأما قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } فمعناه: بالعلم، والإحاطة، انتهى. وهذا هو التأويل والتفسير، لمتشابه القرآن والحديث، الذي نهوا عنه، ومنعوا منه.
والحق في هذا الموضع، ونحوه: الاعتراف بظاهر اللفظ، والإيمان بلا كيف. والسكوت: عن تعيين المعية، وبيان حقيقتها. والله أعلم.
(فإن ذكرني في نفسه: ذكرته في نفسي) .
يحتمل: أن يريد سبحانه: أن العبد إذا ذكره ذكرا قلبيا غير شفاهي: أثابه ثوابا مخفيا عن عباده وأعطاه عطاء، لا يطلع عليه غيره.
ويحتمل: أن يريد الذكر الشفاهي "على جهة الإسرار"، دون الجهر. وأن الله تعالى، يجعل ثواب هذا الذكر الإسراري: ثوابا مستورا، لا يطلع عليه أحد.
ويدل على هذا الاحتمال الثاني: قوله: (وإن ذكرني في ملأ: ذكرته في ملأ، هم خير منهم) فإنه يدل على أن العبد: قد جهر بذكره "سبحانه".
[ ص: 543 ] بين ذلك الملأ، الذي هو فيهم. فيقابله: الإسرار بالذكر باللسان، لا مجرد الذكر القلبي. فإنه لا يقابل: الذكر الجهري. بل يقابل: مطلق الذكر اللساني، أعم من أن يكون سرا، أو جهرا.
ومعنى "ذكرته في ملأ خير منهم": أن الله سبحانه، يجعل ثواب ذلك الذكر: بمرأى ومسمع، من ملائكته. أو يذكره عندهم: بما يعظم شأنه، ويرتفع به مكانه. ولا مانع من أن يجمع له: بين الأمرين.
وقد حقق ذلك: علماء البيان. وإنما يحتاج إلى هذا، إذا أريد بالنفس: "معنى من معانيها"، لا يجوز إطلاقه على الرب.
وأما إذا أريد بها الذات: فلا حاجة إلى القول بالمشاكلة. قال nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري : "النفس" تطلق - في اللغة - على معان؛ منها: الدم. ومنها: نفس الحيوان. وهما مستحيلان، في حق الله تعالى.
[ ص: 545 ] قال: ومذهب أصحابنا وغيرهم: أن الأنبياء، أفضل من الملائكة. لقوله تعالى - في بني إسرائيل: { وفضلناهم على العالمين } [ ص: 546 ] والملائكة من العالمين. انتهى.
قلت: لا دليل في هذا، على ما ادعاه. لأن المراد بالعالمين - في هذه الآية -: عالمي زمانهم، دون سائر الكائنات.
قال: ويتأول هذا الحديث، على أن الذاكرين غالبا: يكونون طائفة، لا نبي فيهم. فإذا ذكر الله تعالى في خلائق من الملائكة: كانوا خيرا من تلك الطائفة.
(وإن تقرب مني شبرا: تقربت إليه ذراعا. وإن تقرب إلي ذراعا: تقربت منه باعا) .
الباع، والبوع بضم الباء، والبوع بفتحها: كله بمعنى. وهو: طول ذراعي الإنسان، وعضديه، وعرض صدره. قال الباجي: وهو قدر أربع أذرع. وهذا حقيقة اللفظ. والمراد بها في الحديث: المجاز. قاله النووي .
وأقول: لا ملجئ إلى القول بالمجاز. بل هو على حقيقته وظاهره.
ولا ندري: كيف هو.
نؤمن به، كما جاء. ونقول به، كما قال به النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. ونعوذ بالله: من الاحتراز عما جاءنا به رسولنا، صلى الله عليه وآله وسلم. فقد جاءنا بهذا ونحوه: من جاءنا بالقرآن.
[ ص: 547 ] وإذا جاء نهر الله: بطل نهر معقل.
وبسط الكلام على هذا اللفظ، في (كتاب الجوائز والصلات) .
اللهم ! قربني منك. وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين الأرض والسماء. ونقني من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس.
(وإن أتاني يمشي: أتيته هرولة) .
قال النووي : هذا الحديث، من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره.
ومعناه: من تقرب إلي بطاعتي: تقربت إليه برحمتي، والتوفيق، والإعانة. وإن زاد: زدت؛ فإن أتاني يمشي، وأسرع في طاعتي: أتيته هرولة. أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها. ولم أحوجه: إلى المشي الكثير، في الوصول إلى المقصود.
والمراد: أن جزاءه، يكون تضعيفه على حسب تقربه. انتهى.
قلت: والأولى: إجراء هذه اللفظة، على ظاهرها. وعدم التأويل لها. ولا استحالة في إتيان الرب تعالى: كما ليس في ثبوت النزول له [ ص: 548 ] سبحانه، والمجيء.
وقد تظاهرت الأدلة الصحيحة بذلك. يعرفها: من يعرف الكتاب والسنة.
وأما المتكلمون في تأويل آيات الصفات، وأحاديثها: فلم يزالوا في حيص وبيص، وعلى بعد من طريق الحق والصواب.
والذي شرح الله صدره للإسلام، ونور قلبه بنور كامل الإيمان: يؤمن بكل ما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله: بلا شك وشبهة، في حرف واحد منه. ويعالج التشبيه: بكلمة إجمالية: { ليس كمثله شيء } .
وفي القرآن والحديث "من جنس هذا": الكثير الطيب. راجع "الجوائز والصلات": يتجلى عليك الحق. وفيه جميع ما ورد من هذا الباب، على وجه الاستقراء: من السنة، والكتاب، وبالله التوفيق.