(عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ) رضي الله عنه؛ (قال: كان رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ يسير في طريق مكة، فمر على جبل، يقال له "جمدان") : بضم الجيم، وإسكان الميم.
(فقال: "سيروا. هذا جمدان. سبق المفردون") هكذا الرواية فيه: "بفتح الفاء، وكسر الراء المشددة". وهكذا نقله nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض : عن متقني شيوخهم.
وذكر غيره: أنه روي: بتخفيفها، وإسكان الفاء. يقال: "فرد الرجل وفرد": بالتخفيف، والتشديد. "وأفرد".
وقد فسرهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: بأهل الذكر الكثير.
(قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات") تقديره: والذاكراته. فحذفت الهاء هنا، كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤوس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه.
قال النووي : وهذا التفسير، هو مراد الحديث. قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة، وغيره: "وأصل المفردين": الذين هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم؛ فبقوا يذكرون الله تعالى.
[ ص: 576 ] وجاء في رواية: "هم الذين اهتزوا في ذكر الله". أي: لهجوا به.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : يقال: "فرد الرجل": إذا تفقه، واعتزل، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. انتهى.
وقد ورد في هذا الباب: أحاديث، لا يسع المقام لذكرها. أورد أكثرها "صاحب الحصن الحصين"، في فضل الذكر، في أول كتابه، وآخره: في فصول. فراجعه.
ومن أجمعها: حديث " nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء " عند nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم في المستدرك، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك في الموطأ، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجة، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الكبير، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الشعب، وابن شاهين في الترغيب: وصححه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم، وغيره. وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد "من حديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ".- قال المنذري : بإسناد جيد، إلا أن فيه انقطاعا -.
وقال الهيثمي - في حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء -: إسناده حسن، وصححه nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر. وقال - في حديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ -: رجاله رجال الصحيح، إلا أن زيادا "مولى ابن عباس ": لم يدرك nindex.php?page=showalam&ids=32معاذا.
قال الزرقاني (في شرح الموطأ، في تأويل حديث " nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء " المتقدم) : أفضل الأعمال: ذكر الله. لأن سائر العبادات - من الإنفاق، وقتال العدو -: وسائل، ووسائط: يتقرب بها إلى الله، والذكر هو المقصود
[ ص: 580 ] الأسنى. ورأسه: "لا إله إلا الله". وهي الكلمة العليا، والقطب الذي تدور عليه رحى الإسلام، والقاعدة التي بني عليها أركانه، والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان. بل هي الكل. وليس غيره. { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } أي: الوحي مقصور على التوحيد، لأنه المقصد الأعظم من الوحي. ووقع غيره: تبعا. ولذا آثره العارفون، على جميع الأذكار، لما فيها من الخواص، التي لا تعرف إلا بالوجدان والذوق.
قالوا: وهذا محمول، على أن الذكر، كان أفضل للمخاطبين به.
ولو خطب شجاع باسل، يحصل به نفع الإسلام في القتال، لقيل له: "الجهاد". أو غني، ينتفع الفقراء بماله، لقيل: "الصدقة". أو القادر على الحج، لقيل له: "الحج". أو من له أبوان، قيل: "برهما" وبه يحصل التوفيق بين الأخبار. انتهى.
[ ص: 581 ] وفي الباب: أحاديث، ذكرها في "تحفة الذاكرين".
وفي هذا: دليل، على أن "كلمة التوحيد": أفضل الذكر، وأفضل الحسنات. وحق لها ذلك؛ فإنها مفتاح الإسلام، بل بابه: الذي لا يدخل إليه، إلا منه. بل عماده: الذي لا يقوم بغيره. وهي آكد أركان الإسلام. وهي الفرقان بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل. وأسعد الناس بشفاعته، صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة -: من قالها خالصا من قلبه، كما في حديث " nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " عند nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وفي هذا: دليل على أن هذه الكلمة، التي هي "كلمة التوحيد"، إذا مات العبد على قولها، وكانت خاتمة كلامه الذي يتكلم به، مختارا [ ص: 582 ] عاقلا: وجبت له الجنة، ولم يضره ما تقدم منه من المعاصي، وإن كانت كبائر: كالزنا، والسرقة. وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء.
قال الشوكاني (في التحفة) : ومن أبى هذا، قلنا له: صح هذا عن الصادق المصدوق، على رغم أنفك. وهو لا يقول إلا الحق، لمكان العصمة. لاسيما: فيما طريقه البلاغ.
وقد تكلف قوم، لرد هذا الحديث الصحيح، وما ورد في معناه: بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
وبعضهم تكلف بتقييده: بعدم المانع. وليس على ذلك أثارة من علم.
قال: وسيأتي تمام الكلام على هذا، في "حديث البطاقة". انتهى.
[ ص: 584 ] وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : (من حديثه) .
قال الشوكاني في (تحفة الذاكرين) : وفي الحديث: تحقيق لما ذكرناه قريبا، من أن هذه الشهادة: تكفر جميع الذنوب. وإن أبى ذلك قوم، وقالوا: إن هذا ونحوه، إنما كان في ابتداء الإسلام، حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد. فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود: نسخ ذلك.
ومن القائلين بهذا: nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك، nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري، nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري. ولا يخفاك: أن هذا مجرد رأي بحت، لم يعضد بدليل. ولا ينافي ذلك: ورود العقوبات المعينة، على ترك فريضة من فرائض الله، فإن الجمع: ممكن، من دون إهدار لهذه الأدلة الصحيحة، المتواترة.
ومن شك في تواترها: فليرجع إلى دواوين الحديث، فإنه سيقف على ذلك: بأيسر بحث. فكيف يدعى: نسخ ما هو متواتر، بمجرد الرأي والاستبعاد؟ فإن كان ذلك لقصد: أن لا يتكل الناس على هذه المنحة الربانية، فذلك ممكن بدون تقنيط لعباده، ومجازفة في دعوى النسخ: للشرائع التي شرعها الله تعالى، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة: إنه لا حاجة إلى دعوى النسخ. ويزعمون: أن القيام [ ص: 585 ] بفرائض الدين، وتجنب منهياته: هو من لوازم الإقرار بهذه الشهادة، ومن متمماته.
وقالت طائفة ثالثة: إن التلفظ بهذه الشهادة: سبب لدخول الجنة، والعصمة من النار، بشرط : (أن يأتي بالفرائض، ويجتنب المحرمات. وإن عدم الإتيان بالواجب، وعدم اجتناب المحرمات: مانع لما تقتضيه) هذه الأحاديث الصحيحة، الكثيرة.
قال: وهذه الأقوال - كما ترى -: لم تربط بما يشد من عضدها، ولم تعمد بعماد يقتضي قبولها، ولا بنيت على أساس قوي، ولا على رأي سوي.
ورد التفضل الرباني: جحد للنعمة، وإنكاره: كفران لها. والهداية إلى الحق: بيد الوهاب العليم.
ومما يدفع هذه التأويلات: ما وقع في حديث nindex.php?page=showalam&ids=63 "عبادة بن الصامت"، بلفظ: "أدخله الله الجنة، على ما كان منه من عمل به". وهو في الصحيحين، وغيرهما. انتهى.
والكلام على نفائس هذه الآية، وحقائقها - التي تبشر عباد الله، بالمغفرة، مع الذنوب الكبائر والصغائر -: يطول جدا. راجع (فتح (البيان) : يتضح لك الحق من غير حجاب. وهأنا، قلت: اللهم ! إني ظلمت نفسي، ظلما كثيرا. ولا يغفر الذنوب: إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت التواب الرحيم. رب! قد بلغت ذنوبي - مما أعلم، ولا أعلم، وتعلمها أنت -: عنان السماء، وإني تبت عنها، فتقبل توبتي، وامح حوبتي، واجعلني: هذا الرجل، المستخلص على رؤوس الخلائق، من أمته، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم القيامة، الذي ليس له إلا: بطاقة الشهادة الصادقة المذكورة، إن لم أكن أهلا لشيء، ولم أعمل عملا صالحا: فأنا أنا، وأنت أنت .
مهما تفكر في ذنوبي خفت على قلبي احتراقه لكنه ينطفي لهيبي بذكر ما جاء في البطاقة
[ ص: 587 ] اللهم ! إن كنت كتبتني في الأشقياء، - ونعوذ بك منهم -: فامح اسمي منهم، واكتبني في السعداء. فإنه لا يعز عليك شيء ولا مكره لك. وأنت على كل شيء قدير.
هذا؛ وقد خرجنا -في هذا الموضع - مما كنا بصدده، من بيان حديث " nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء ". والشيء بالشيء: يذكر.
ولم يخرجني منه: إلا غلبة الرجاء من الله سبحانه، لعفو الذنوب التي خفت منها، خوفا جما، وألممت بها إلماما لما. وأريد الوقاية منها، ولا أستطيع. وإن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي. فارحمني. يا أرحم الراحمين !
ولنرجع إلى الكلام الباقي، على الحديث الماضي؛ قال الزرقاني : ومقتضى هذا الحديث (يعني: حديث " nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء " المتقدم، في فضل الذكر) : أن الذكر، أفضل من التلاوة. ويعارضه خبر: "أفضل عبادة أمتي: تلاوة القرآن".
[ ص: 588 ] وجمع nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي: بأن القرآن أفضل لعموم الخلق. والذكر أفضل: للذاهب إلى الله، في جميع أحواله، في بدايته ونهايته؛ فإن القرآن مشتمل على: صنوف المعارف، والأحوال، والإرشاد إلى الطريق. فما دام العبد مفتقرا إلى: تهذيب الأخلاق، وتحصيل المعارف: فالقرآن أولى. فإن جاوز ذلك، واستولى الذكر على قلبه: فمداومة الذكر أولى؛ فإن القرآن يجاذب خاطره، ويسرح به في رياض الجنة. والذاهب إلى الله: لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة، بل يجعل: همه هما واحدا، وذكره: ذكرا واحدا، ليدرك درجة الفناء، والاستغراق. قال تعالى: { ولذكر الله أكبر } . انتهى.
والذي يتحصل، من النظر في الأدلة: أن يجمع بينهما؛ فإن كل واحد من هذين: أفضل من سائر الأعمال، والأحوال، والأقوال، والأفعال؛ فآونة: يتلو. وآونة: يذكر. والقرآن مشتمل على الذكر، وليس الذكر مشتملا عليه. ومن شغله القرآن عن مسألة ربه: يعطيه سبحانه أفضل ما يعطي السائلين. ولم يتقرب عبد إلى ربه: بأفضل من تلاوة كتابه. ثم الذكر: ليس بمنحصر في الأذكار، المأثورة في كتب السنة الصحيحة. بل كل عمل صالح، يعمله العباد على وجه الحق والصواب، [ ص: 589 ] ويشتغل به- امتثالا لأمر الله تعالى، ورسوله -: فالذكر يشمله، ويحوي عليه. بل ذكر كل موضع، وحال: هو العمل الذي ورد الأمر بفعله، في ذلك الوقت والحال.
والعمدة - في هذا الباب -: ذكره سبحانه، عند كل قول وفعل. فالآتي بالطاعات المفروضة، والمجانب للمنهيات المكتوبة: ذاكر لله تعالى، ذكرا كثيرا. وهكذا: حكم الذاكرات.
[ ص: 590 ] ثم قال الزرقاني : وأخذ "ابن الحاج" من الحديث - يعني حديث " nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء " -: أن ترك طلب الدنيا: أعظم - عند الله - من أخذها، والتصدق بها. وعن الحسن: لا شيء أفضل من رفض الدنيا. انتهى.
قلت: "حب الدنيا" رأس كل خطيئة. وهذا الحب، هو الحامل للناس: على معاصي الله تعالى. وتركه - مع الإقبال على ذكر الله -: هو الباعث لهم على الفوز بالنجاة، في الدنيا والآخرة.