قال النووي: وإنما كتمه أولا: مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله، وانهماكهم في المعاصي. وحدث به ثانيا - عند وفاته -: لئلا يكون كاتما للعلم. وربما لم يكن أحد يحفظه غيره، فتعين عليه أداؤه.
[ ص: 59 ] وهو نحو قوله - في الحديث الآخر -: «فأخبر بها nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ عند موته - تأثما -». أي: خشية الإثم، بكتمان العلم.
قال: وقد سبق شرحه، في كتاب الإيمان.
وقد سئل شيخنا: الإمام العلامة «محمد بن علي الشوكاني» رضي الله عنه، عن حديث الباب هذا: فأجاب بما لفظه (في الفتح الرباني): هكذا أقول: إن وجه وقوع الإشكال، في هذا الحديث - الجماعة من أهل العلم -: أنهم ظنوا، أنه يدل على أن وقوع الذنوب من العصاة: مطلوب للشارع. وهذا تخيل مختل، وفهم فاسد معتل ؛ فإن الحديث لا يدل على ذلك لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام ؛ فإن قوله: «لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم... إلخ»: لا يدل إلا على أن هذا النوع الإنساني - باعتبار مجموعه -: لا يخلو عن الذنب قط. ولو فرضنا أنه يخلو عنه: لم يكن إنسانا، بل غير إنسان. لأن العصمة لجملة النوع: باطلة. وما استلزم الباطل: باطل. وقد قضى الله في سابق علمه - كما أخبرنا بذلك، في كتابه، وعلى لسان رسله -: أن فريقا من هذا النوع «في الجنة»، وفريقا «في السعير».
[ ص: 60 ] وأن منهم الشقي، والسعيد. والبر والفاجر. والمسلم والكافر.
وأخبرنا أيضا على لسان رسله -: أنه خلق الجنة، وخلق لها أهلا، وخلق النار، وخلق لها أهلا.
وأخبرنا أيضا: أنه الغفور الرحيم، المنتقم الجبار شديد العقاب، ونحو ذلك من الأسماء والصفات.
فلو فرضنا أن مجموع هذا النوع الإنساني، لا يصدر منه ذنب أصلا: كانت هذه الإخبارات الإلهية باطلة. وما استلزم الباطل: باطل.
وبيان الملازمة: أنه إذا لم يوجد المذنب، لم يوجد الشقي فيهم، ولا الكافر، ولا الفاجر. ولا من هو من أهل النار. وأيضا لم يوجد: من يستحق العفو عنه والرحمة به، والانتقام منه والعقوبة له.
وأما بطلان اللازم: فظاهر متقرر. فظهر بهذا: أن الحديث مسوق لبيان أن العصمة عن مجموع هذا النوع الإنساني منهم: المطيع. ومنهم: العاصي. ومنهم: من جمع بين الطاعة والمعصية.
وأنهم مظاهر الأسماء الحسنى، والصفات: المتضمنة للغضب والرضاء، والرحمة والعقوبة، والنعيم والعذاب، والعفو والعقاب. وأن منهم فريقا «في الجنة»، ومنهم فريق «في النار».
فمن رام أن يكونوا - جميعا - معصومين عن الذنوب: فقد رام
[ ص: 61 ] شططا، وخالف الشرائع بأسرها، كما خالف الواقع ونفس الأمر. ولم يبق على ما زعمه: ثمرة لإنزال الكتب، وبعثة الرسل.
قال: هذا حاصل ما يظهر لي، في معنى الحديث الصحيح.
ومن رام: الوقوف، على جميع ما قيل في ذلك، فليبحث مطولات شروح الحديث. وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية. والله ولي التوفيق.