وفيه: تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها (وهو: وجهه ) من التراب، الذي يداس ويمتهن. والله أعلم.
قال: والمراد به: "السجود" في الصلاة. وفيه: دليل لمن يقول: تكثير السجود أفضل من إطالة القيام. انتهى.
وأقول: حمل السجدة هنا، على السجود في الصلاة. يخالف ظاهر الحديث، ويأباه شأن السؤال، والجواب.
وقد تأول الحديث بهذا المعنى، جماعة من أهل العلم. وحملوه على ذلك. منهم: الحافظ بن حجر، وغيره. وليس على ما ينبغي. وإن كان إطلاق السجدة في بعض المواضع، على الصلاة يكون واقعا مع قرينة. وليس هنا ما يعين هذه القرينة. ويوجب هذا الحمل.
قال الشوكاني في "الفتح الرباني": إن السجود بمجرده، من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها؛ عبادة مستقلة. يأجر الله عبده عليها.
والنصوص على ذلك في الكتاب العزيز معروفة.
والحمل في بعضها على السجود الكائن في الصلاة، أو على نفس الصلاة، هو مجاز لا بد فيه من علاقة؛ وقرينة؛ ودليل.
[ ص: 391 ] ومن ذلك: السجودات للتلاوة. فإنه صلى الله عليه وسلم بينها بالسجود المنفرد. و غيرها مثلها تحمل على السجود المنفرد. كما في حديث nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان هذا.
وهذا لفظ nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ؛ وكل عربي لا يفهم من قوله: سجدة. إلا السجدة المنفردة.
وأما السجود الذي في الصلاة، فأجره داخل في أجر جملة الصلاة.
وقد أخطأ صاحب "عدة حصن الحصين" في الحكم منه: بأن هذه السجدة موضوعة. وقد نبهت على ذلك في شرحي "للعدة".
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة في "مصنفه": (عن nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد، أنه قال: ما وضع رجل جبهته لله ساجدا، فقال: "يا رب اغفر لي" ثلاثا، إلا رفع رأسه وقد غفر له ) .
وهذا وإن كان موقوفا عليه. فله حكم الرفع. لأن ذلك لا يقال من طريق الرأي.
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني عن أبي مالك عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد ) : رواه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في "الكبير" من رواية محمد بن جابر؛ عن أبي مالك هذا.
ومعلوم أن المراد بهذه السجدات المذكورة في هذه الأحاديث، هي السجدات المنفردة؛ كما هو المعنى الحقيقي.
وصدقه مجازا على السجود الكائن في الصلاة لا يضرنا، ولا يدفع صدقه على السجود المنفرد.
والحاصل: أن السجود نوع من أنواع العبادة، مرغب فيه بهذه الأحاديث وغيرها؛ يتقرب به العبد، كما يتقرب بالصلاة: لورود الترغيب فيه، والوعد النبوي بالأجر الجزيل عليه.
[ ص: 394 ] وفعله صلى الله عليه وسلم لبعض أنواعه، لا يمنع من فعل غيره؛ كما هو شأن الترغيب العام بالقول.
ومثل هذا لا يخفى. فيسجد أي وقت شاء. على أي صفة أراد.
ومن أنكر عليه ذلك، فهو لا يدري بهذه الأحاديث التي ذكرناها؛ و أشرنا إلى غيرها.
أو يدري بها، ولكنه لا يفهم أن المشروعية ثبتت بدون ذلك.
ومن قال بأن المشروع من السجود، إنما هو بعض أنواعه. مثل سجود التلاوة والشكر، ونحو ذلك، فيقال له: يلزمه هذا في الصلاة؛ ويقال له: ليس له أن يتنفل إلا النفل الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم ؛ ولا يزيد عليه في عدد، ولا صفة؛ ولا يفعله في زمان غير الزمان الذي فعله صلى الله عليه وسلم فيه.
ولا يخفاك أن هذا القول، جهل عظيم. لأن الترغيبات في مطلق النفل من الصلاة، يدل على أن الاستكثار من صلاة النفل سنة ثابتة. وشريعة قائمة. ما لم يكن الوقت وقت كراهة.
فهكذا مجرد السجود. فقد ثبت الترغيب فيه؛ والأجر العظيم لفاعله، كما تقدم. ولاسيما وهو من أسباب القرب من الرب عز وجل.
ثم أمره بإكثار الدعاء، عند هذا القرب الكائن للساجد بسجوده.
فما أحق طالب الخير، وقارع باب الإجابة، أن ينحط عند أن يدعو ربه عز وجل ساجدا !.
[ ص: 395 ] فإنه يفتح له باب الرحمة، التي تجاب عندها الدعوات، وترفع بها الدرجات، وتكفر بها الخطيئات.
لأنه قد صار في مقام القرب من ربه عز وجل. بل في مقام أقرب القرب من الجناب العالي عز وجل. انتهى كلامه الشريف.
وقد ثبت أن هذا البحث، آخر بحث لشيخنا، وبركتنا: الإمام الرباني القاضي: محمد بن علي الشوكاني. رضي الله عنه، وأرضاه. وجعل الجنة منزله ونزله ومثواه.
وسبب ذلك؛ أنه اعتمد في آخر أيامه على كثرة السجود، والتطويل فيه، والاشتغال به، فسأله بعض كبار تلامذته عن ذلك؟ فحرر هذا البحث، وما أبلغه وأتقنه، وأحسنه، وأكثره فائدة ونفعا !