(عن معاوية بن الحكم السلمي ) رضي الله عنه؛ (قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله ! [ ص: 491 ] فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: وا ثكل أمياه )
وأنه لا تبطل به الصلاة. وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة. (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده، أحسن تعليما منه ) .
وفيه: التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه.
(فوالله ! ما كهرني ) أي: ما انتهرني، (ولا ضربني ولا شتمني ) ، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
فإن احتاج إلى تنبيه أو إذن لداخل ونحوه، سبح إن كان رجلا وصفقت إن كانت امرأة؛ هذا مذهبنا، ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة، والجمهور من السلف والخلف.
وقالت طائفة، منهم nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي: يجوز الكلام لمصلحة الصلاة، لحديث ذي اليدين، وهذا في كلام العامد العالم.
أما الناسي، فلا تبطل صلاته بالكلام القليل عندنا. وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد والجمهور. وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة، والكوفيون: تبطل.
قال: دليلنا حديث ذي اليدين.
[ ص: 493 ] فإن كثر كلام الناسي، ففيه وجهان: أصحهما تبطل صلاته، لأنه نادر.
وأما كلام الجاهل، إذا كان قريب عهد بالإسلام؛ فهو ككلام الناسي، فلا تبطل الصلاة بقليله، لحديث معاوية بن الحكم، هذا الذي نحن فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يأمره بإعادة الصلاة، لكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل. "وفيه" النهي عن تشميت العاطس في الصلاة.
وأنه من كلام الناس، الذي يحرم في الصلاة، وتفسد به إذا أتى به عالما عامدا. انتهى.
قلت: الأحاديث الواردة في الأمر بترك الكلام، والنهي عنه في الصلاة، كثيرة.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر: أجمع أهل العلم، على أن من تكلم في صلاته، وهو لا يريد إصلاح صلاته، أن صلاته فاسدة.
واختلفوا في كلام الساهي، والجاهل.
وقد ذكر الشوكاني الخلاف في ذلك، وما استدلوا به. في شرحه للمنتقى.
وقال في (السيل الجرار ) : ومما يستدل به على المنع من الكلام في [ ص: 494 ] الصلاة، حديث معاوية السلمي عند nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ، وغيره.
والمراد بقوله فيه: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس": تكليمهم ومخاطباتهم. هذا هو المعنى العرفي، الذي لا يشك فيه عارف.
وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة الذي ليس من كلام الله.
فإن هذا خلاف ما هو المراد، وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام.
وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد، ونحوها. وخلاف ما تواتر تواترا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة، من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء.
وبالجملة: فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية، ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها، والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية، وفي كل عصر، وعند أهل كل مذهب.
قال: وليس التنحنح، والأنين، من كلام الناس، ولا من التكلم في الصلاة.
ولا تشمله الأحاديث، المشتملة على النهي عن الكلام، ولا يحتاج إلى استدلال على الجواز.
[ ص: 495 ] بل الدليل على من زعم، أن التنحنح والأنين، من جملة مفسدات [ الصلاة ] ولا دليل أصلا.
ولكن إذا فعله المصلي، لا بسبب يقتضيه، من عروض انسداد في الصوت؛ كما في التنحنح، ولا من زيادة في الخشوع والتدبر، كما في الأنين، فهو لم يعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=677522 "إن في الصلاة لشغلا". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه تنحنح في صلاته ) . وثبت عنه: (أنه كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) .
(قلت: يا رسول الله ! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام. ) .
قال أهل العلم: الجاهلية ما قبل ورود الشرع. سموا: جاهلية: لكثرة جهالاتهم وفحشهم. (وإن منا رجالا يأتون الكهان. قال: "فلا تأتهم". )
إنما نهى عن ذلك، لأنهم يتكلمون في مغيبات، قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك؛ لأنهم يلبسون على الناس كثيرا من أمر الشرائع.
وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة، بالنهي عن إتيان الكهان [ ص: 496 ] وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يعطون من الحلوان. وهو حرام بإجماع المسلمين.
وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة، منهم: أبو محمد البغوي. وهو ما أخذه المتكهن على كهانته.
قال nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي: ويمنع المحتسب الناس من التكسب بالكهانة، واللهو.
ويؤدب عليه الآخذ، والمعطي.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي: حلوان الكاهن محرم، وفعله باطل. قال: وحلوان العراف حرام أيضا.
(قال: ومنا رجال يتطيرون. قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم؛ فلا يصدنهم" قال ابن الصباح: "فلا يصدنكم" ) .
يعني: أن الطيرة شيء يجدونه ضرورة. ولا عتب عليكم في ذلك، فإنه غير مكتسب لكم، فلا تكليف به.
ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. فهذا هو الذي تقدرون عليه. وهو مكتسب لكم، فيقع به التكليف.
[ ص: 497 ] فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن العمل بالطيرة، والامتناع من تصرفاتهم بسببها. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير، وأنه شرك.
والطيرة هي محمولة على العمل بها، لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاه عندهم.
(قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" ) . أي: فهو مباح له.
ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، فلا يباح. والمقصود: أنه حرام.
وقال: "فذاك" ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافقة؛ لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط.
فحافظ صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبي، مع بيان الحكم في حقنا. والحاصل: أن العلماء اتفقوا على النهي عنه الآن.
(قال: وكانت لي جارية، ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ) بفتح الجيم، وتشديد الواو، وبعد النون ياء مشددة. هكذا ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد، والمحققون. وحكى nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض: تخفيف الياء.
[ ص: 498 ] وهي موضع في شمالي المدينة، بقرب أحد. وقول nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض: إنها من عمل الفرع، ليس بمقبول.
لأن الفرع بين مكة والمدينة بعيد من المدينة. وأحد في شام المدينة، وقد قال في الحديث: (قبل أحد والجوانية ) فكيف يكون عند الفرع؟
"وفيه" دليل على جواز استخدام السيد جاريته في الرعي، وإن كانت تنفرد في المرعى.
وإنما حرم الشرع مسافرة المرأة وحدها، لأن السفر مظنة الطمع فيها، وانقطاع ناصرها، والذاب عنها، وبعدها منه، بخلاف الراعية.
ومع هذا؛ فإن خيف مفسدة من رعيها، لريبة فيها، أو لفساد من يكون في الناحية التي ترعى فيها، أو نحو ذلك، لم يسترعها، ولم تمكن الحرة، ولا الأمة من الرعي حينئذ.
لأنه حينئذ، يصير في معنى السفر الذي حرمه الشرع على المرأة.
فإن كان معها محرم أو نحوه، ممن تأمن معه على نفسها، فلا منع حينئذ؛ كما لا تمنع من المسافرة في هذه الحال، والله أعلم.
(فاطلعت ذات يوم، فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف ) أي: أغضب. وهو بفتح السين.
[ ص: 499 ] (كما يأسفون. لكني صككتها صكة ) أي: لطمتها. (فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت يا رسول الله ! أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها" فأتيته بها. فقال لها: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" ) .
قال النووي : هذا الحديث من أحاديث الصفات؛ وفيها مذهبان:
ليس كمثله شيء ، ولم يكن له كفوا أحد [ ص: 500 ] وهذا القدر يكفي في التنزيه. وعلى ذلك درج جميع السلف من الصحابة، والتابعين، وتبع التابعين، وجملة المحدثين.
ولم يكلفنا الله تعالى ورسوله، بهذا التكلف؛ ولم يرد في الأدلة ما يرشد إليه.
والذي يجب علينا في أمثال هذه المواضع، الإتيان بما أتى به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهيا عنه، وإن كان ظاهره التشبيه، مع اعتقاد نفيه عنه سبحانه وتعالى.
وقد زلت أقدام غالب مقلدة المذاهب الأربعة، وغيرهم، في هذا المقام، فتركوا مذهب سلف الأمة وأئمتها في ذلك، مع الإقرار بأنهم أهل تفويض، وهم قدوة الأمة. وأخذوا بطريق الخلف المؤولين مع الاعتراف بأنهم لا يبلغون شأو السلف الخيرة، ولا يدركون ما أدرك أولئك الكرام البررة.
ومسألة الصفات أوضح من أن تخفى. ولكن وقعت فيها زلازل وقلاقل غريبة، قديما وحديثا.
حتى آل الأمر إلى تكفير بعضهم بعضا. وسموا أهل الحديث مشبهة.
[ ص: 502 ] وهم بمعزل عن ذلك، تعالى شأنه عما هنالك.
بل ليس الحق الواضح، والصواب المحض، إلا في ما حققوه، ولا سبيل إلى النجاة من هذه المهالك، إلا في قبول ما أثبتوه. وحاشاهم عن التشبيه، فإن المشبه يعبد صنما، كما أن المعطل يعبد عدما.
والكلام في هذا المقام يطول جدا، وقد قضينا الوطر عنه في مؤلفاتنا قضاء حسنا. فراجع وبالله التوفيق، وهو المستعان.