انظر كتاب "حصول المأمول من علم الأصول" ، يتضح عليك الصواب في هذا الأمر من الخطأ ينسيك كل طريق تعرفه، ويهديك إلى دار [ ص: 144 ] المصطفى، إن كنت ممن يؤثر الدليل على القال والقيل، ولا يهاب أحدا ولا يخاف في الله لومة لائم، وإن درج عليه جيل بعد جيل، والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
(وشر الأمور محدثاتها). ومن هذه الأمور: القول بحجية الإجماع المصطلح، والقياس المنحوت، المحدث بعد القرون المشهود لها بالخير.
والتقليد الشوم، الحادث بعد الصدر الأول، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وتمسك كل محدث بإحداثه، وكل مبتدع ببدعته.
(وكل بدعة ضلالة). هذا الحكم العام، لم يرح رائحة التخصيص، وهذا الإطلاق، لم يتقيد في شيء من الأدلة الصحيحة الصريحة المحكمة.
كما هو ظاهر واضح، لا يخفى على ذي عينين، وإن خفي على جماعات من أهل المذاهب، وأصحاب التقليد.
فالقول: بأن هذا عام مخصوص، وهذا مطلق مقيد، ينادي على قائله بالجهل العظيم عن علم السنة المطهرة، والسفه الفخيم في درك مفاهيم الشريعة الحقة.
وقد حققنا هذه المسألة، في كتابنا "هداية السائل" وغيره، وكشفنا الغمة عنها، على وجه لا يبقى بعده ريب لمرتاب، إن أنصف.
وإلا فمفاسد الجهل والتعصب، أكثر من أن تحصى.
قال النووي : قال أهل اللغة: البدعة هي كل شيء، عمل على غير مثال [ ص: 145 ] سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام.. إلخ فذكرها.
قال: والمراد (يعني في هذا الحديث) : غالب البدع.
وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة، في (تهذيب الأسماء واللغات) ، فإذا عرف ما ذكرته، علم أن الحديث من العام المخصوص.
وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة.
ويؤيد ما قلناه: قول nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب في التراويح: نعمت البدعة.
ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا.
قوله: "كل بدعة" مؤكدا بكل، بل يدخله التخصيص مع ذلك، كقوله تعالى: تدمر كل شيء انتهى كلامه.
وأقول: هذه دعوى مجردة، لا دليل عليها.
والقيام في رمضان الذي يقال له: "التراويح" سنة، لا بدعة. كما تقدم في موضعه.
والبدعة في قول nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه، محمول على المعنى المجازي، لا الاصطلاحي. فأين هذا من ذاك؟.
ولا يشك عارف بلغة العرب، وعلم الأدب، أن لفظة "كل": تمنع من التخصيص.
وأنها حرف سور يجيء للإحاطة. ويحيط جميع أفراده، فلا يخرج عنه فرد إلا بدليل يخصه. ولا دليل.
[ ص: 146 ] وتقسيم البدعة إلى: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. (كما فعل النووي ، وغيره) ، وإلى حسنة، وسيئة. (كما قال به جمع من أهل البدعة الذين أشرب في قلوبهم العجل:، شيء لم يرد به كتاب، ولا سنة صحيحة، بل ولا ضعيفة.
وإنما جاءوا بذلك من قبل أنفسهم، وتلقاء آرائهم، صونا لمذهبهم، وعونا لبدعهم.
وقد رد على هؤلاء: جماعة من أهل الحق، قديما وحديثا. وأنكروا عليهم ذلك إنكارا شديدا.
هذه كتبهم ورسائلهم على وجه البسيطة.
انظر فيها لا تجد- إن شاء الله تعالى- سبيلا لخروج من هذه الكلية العامة المطلقة إلى قسمتها.
والذي حكموا عليه بأنه واجب، أو مكروه، أو مباح، أو كذا، أو كذا، إذا نظرت فيه نظر ممعن بصير، عرفت أن بعضه ليس من البدعة في شيء أصلا، وبعضه منهي عنه بأدلة أخرى.
فما لك ولتقسيم البدع إلى أنواع لم يأذن بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
والأحاديث الصحيحة، الواردة في التحذير عن البدع وذمها، وذم صاحبها، وذم الذي يؤوي حدثا، أو محدثا: كثيرة طيبة جدا.
[ ص: 147 ] وكلها دالة على كون كل بدعة ضلالة، بلا تخصيص، ولا تقييد. وهذه الأحاديث قد وردت بألفاظ، وعبارات، شتى; مفهومها جميعا واحد.
قال: هذا الحديث من قواعد الدين; لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر.
وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء; من تقسيم البدعة إلى أقسام! وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص، من عقل ولا نقل!
فعليك إذا سمعت من يقول: "هذه بدعة حسنة" : بالقيام في مقام المنع، مسندا له بهذه الكلية، وما يشابهها; من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=848513كل بدعة ضلالة ، طالبا لدليل تخصيص تلك البدعة؛ التي وقع النزاع في شأنها، بعد الاتفاق على أنها بدعة.
فإن جاءك به قبلته، وإن كاع كنت قد ألقمته حجرا واسترحت من المجادلة.
[ ص: 148 ] ومن مواطن الاستدلال بهذا الحديث، كل فعل، أو ترك، وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفك في اقتضائه البطلان- أو الفساد- متمسكا بما تقرر في الأصول: من أنه لا يقتضي ذلك إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم; كالشرط.
أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم، كالمانع.
فعليك بمنع هذا التخصيص، الذي لا دليل عليه، إلا مجرد الاصطلاح لهذا المنع، بما في حديث الباب: من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الأمور، التي ليست من ذلك القبيل، قائلا هذا أمر ليس من أمره، وكل أمر ليس من أمره فهو رد، فهذا رد، وكل رد باطل، فهذا باطل. انتهى مختصرا.
وسيأتي تمامه في موضع آخر "إن شاء الله تعالى" .
وقال في فتاواه في مسألة عمل المولد وكونه "بدعة" : ليس القائل بجوازه بعد تسليم كونه بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، إلا قائلا بما هو ضد الشريعة المطهرة، ولم يتمسك في ذلك إلا بتقليد من قسم البدعة إلى أقسام، والتقسيم ليس عليه أثارة من علم. هذا حاصل كلامه رحمه الله.
وبالجملة فهذه مسألة، من المسائل التي فيها خلاف بين القائلين بها، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل بضلالة كل بدعة.
ولينظر كل قائل بتقسيم البدعة، أنه على من جنى في هذا الذهاب والإياب؟
[ ص: 149 ]
وعلى من أساء الأدب في هذا الباب؟
وأي إسلام: أن يترك مسلم قول من جاءه بالإسلام، ويتمسك بقول فرد من أفراد الأنام، في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا قول لأحد كائنا من كان، معه في شيء من الأشياء، وحكم من الأحكام؟.
قال النووي : قال أصحابنا: فكأن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا اضطر إلى طعام غيره، وهو مضطر إليه لنفسه، كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخذه من مالكه المضطر، ووجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولكن هذا، وإن كان جائزا فما وقع. انتهى.
قلت: وفيه رد على التقليد المصطلح المشئوم؛ فإن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، لما كان أولى بكل مؤمن من نفسه; فكيف يجوز له أن يقلل نفسه لغيره صلى الله عليه وسلم، ولا يتبع أمره صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، ويقدم أمر غيره ورأيه واجتهاده وقياسه، على سنته المطهرة المنورة، [ ص: 150 ] ويجعل ذلك الغير أولى بنفسه، ممن جعله الله تعالى أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.