فيه: أن الدعاء هو قولهما: لئن آتيتنا صالحا... إلخ.

وهنا يقال: إن الشرك وقع منهما في الطاعة، لا في العبادة.

وأقول: الصحيح: أن الشرك إنما وقع من حواء فقط دون آدم عليه [ ص: 217 ] السلام -؛ لأنه نبي، وخليفة، والنبي لا يتأتى منه مثل هذا.

والعرب تخاطب الواحد بالتثنية، وذلك شائع ذائع في لغتهم ومحاورتهم؛ كما صرح بذلك في تفسير «فتح البيان»، فارتفع الإشكال الذي حير العلماء في كل زمان.

وإنما كررنا الاستدلال على أن الدعاء هو النداء؛ لأن المفسرين قد حملوا الدعاء على أحد خمسة معان بحسب المقام في كل آية، وآية، وإلا فأصل الدعاء في اللغة: الإيمان.

قال في «القاموس»: الدعاء: رغبة إلى الله، وعرف بأنه رفع الحاجات إلى رفيع الدرجات.

وقد ورد الوعيد الشديد، والنهي الأكيد فيمن سأل الناس من أموالهم خاصة إذا كان معه ما يكفيه، أو ما يعشيه، أو ما يغديه، فكيف من يسأل الأموات قضاء الحوائج، ولا يسأل الله الذي خلق الأرض والسماوات؟! [ ص: 218 ]

أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53].

قال تعالى في سورة «الجن»: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [الجن:18]؛ أي: لا تعبدوا، ولا تنادوا غيره، كائنا من كان، وأينما كان.

وقال في سورة «الأحقاف»: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [الأحقاف: 5-6].

وهذا نص في محل النزاع.

فقد ثبت بهذه الآية أن الدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء.

وقال في سورة «يونس»: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين : [يونس: 106]

فيه أيضا: أن الدعاء هو العبادة، وأن عبادة غير الله تعالى هي الظلم، والظلم هو الشرك كما يدل عليه القرآن الكريم في غير موضع.

فمن دعا غير الله من لا يقدر على النفع والضرر، فقد صار من الظلمة المشركين بالله تعالى.

وقال في سورة «المؤمنون»: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [المؤمنون: 117].

فيه: أن عبادة غيره تعالى مع عبادته سبحانه من الكفر، والمحاسبة يوم الحساب، ومن نوقش في الحساب فقد هلك.

وقال في سورة «العنكبوت»: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [العنكبوت: 65]. الآية، وقد تقدمت.

فيفهم منها أن دعاء غير الله تعالى ضلالة، وظلم، وشرك، وكفر، وصاحبها كذلك.

واللام في آخر هذه الآية في قوله: ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا [العنكبوت:66] [ ص: 219 ]

هي لام العاقبة. أي: عاقبة شركهم هو الكفر، والتمتع القليل الفاني.

فإن قيل: إن الداعي إنما أراد التقرب إلى الله بدعوته مدعوه، والشفاعة إليه سبحانه، لا عبادته.

فالجواب: أن هذا عين ما أراد المشركون الأولون؛ بدليل قوله تعالى: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3].

وفي آية شريفة أخرى: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس:18].

وختم الآية الأولى بقوله: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [الزمر:3].

وختم الآية الثانية بقوله: سبحانه وتعالى عما يشركون [النحل: 1].

فإن قيل: إنهم يظنون أنهم على هدى، ولا يظنون أنهم على ضلال.

فالجواب: قال الله تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [الأعراف: 29- 30].

وهذا فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق، هو والجاحد المعاند سواء.

وقد فسر nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس الحبر البحر ترجمان القرآن «القسط» هنا بـ: «لا إله إلا الله»، وفسره الضحاك بالتوحيد.

وقال سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [الزخرف:36-37].

وفي «تفسير البغوي» عند قوله تعالى في سورة يونس: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين [يونس: 22]؛ أي: أخلصوا في دعاء الله، ولم يدعوا أحدا سواه. انتهى. [ ص: 220 ]

وفي هذا: أن الدعاء هو الدين، والإخلاص فيه هو التوحيد، وأن دعوة غير الله شرك.

ولا يقال: إن هذا إن كان شركا، فشرك أصغر، لا أكبر.

والجواب: أن الدعاء لغير الله على اعتقاد النفع والضر من المدعو من دون الله؛ في قضاء الحوائج، وإغاثة اللهفات، وشفاء المرض، وقضاء القرض، ونحو ذلك هو الذي كان عليه مشركو العرب، وكان هذا عبادتهم، وشركهم بالله تعالى.

والعكوف، والذبح، ونحوهما فروع لهذه المطالب.

ونتيجة أشكال دعوتهم الميت، والغائب أنهم يجعلونهم وسائط بينهم وبين الله تعالى، وهي منتفية هاهنا، وفيها تشبيه الخالق بالمخلوق، وهو شرك محض، كما أن التعطيل جهل بحت.

ولم تكن بعثة الرسل ودعوتهم إلا إلى توحيد الألوهية، التي هي عبارة عن العبادة الخالصة للرب تعالى وتقدس؛ لتكون كلها بحذافيرها، ونقيرها وقطميرها لله وحده.

وهذا هو المراد من قول أهل العلم: إن دعاء غير الله شرك أكبر.

ومن قال: لا إله إلا الله، ودعا غير الله -على ما تقدم ذكره-، فقد هدم مبناه، ونقض ما قاله ونفاه، ولم تصح بينته على دعواه.

والدعاوى ما لم تقم عليها بينات، فأبناؤها أدعياء، وهي على شفا جرف هار، والله تعالى يقول في سورة العنكبوت: إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم [العنكبوت:42].

وقال في سورة «يونس»: ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [يونس:66]. [ ص: 221 ]