وبالجملة : فقد ثبتت إرادة يتجدد تعلقها ، وثبتت المجازاة في الدنيا ، والآخرة .
وثبت أن مدبر العالم دبر العالم بإيجاب شريعة يسلكونها لينتفعوا بها .
فكان الأمر شبيها بأن السيد استخدم عبيده ، وطلب منهم ذلك، ورضي عمن خدم ، وسخط على من لم يخدم .
فنزلت الشرائع الإلهية بهذه العبارة ، لما ذكرنا أن الشرائع تنزل في الصفات وغيرها ، بعبارة ليس هنالك أفصح ، ولا أبين للحق منها ، سواء أكانت حقيقة لغوية ، أو مجازا متعارفا .
ثم مكنت الشرائع الإلهية هذه المعرفة الغامضة من نفوسهم بثلاث مقامات مسلمة عندهم ، جارية مجرى المشهورات البديهية بينهم .
أحدها : أنه تعالى منعم ،
وشكر المنعم واجب ، والعبادة شكر له على نعمه .
والثاني : أنه يجازي المعرضين عنه ، التاركين لعبادته في الدنيا أشد الجزاء .
الثالث : أنه يجازي في الآخرة المطيعين والعاصين .
فانبسطت من هنالك ثلاثة علوم :
1-علم التذكير بآلاء الله .
2-وعلم بأيام التذكير بالله .
3-وعلم التذكير بالمعاد .
فنزل القرآن العظيم شرحا لهذه العلوم .
وإنما عظمت العناية بشرح هذه العلوم ؛ لأن الإنسان خلق في أصل فطرته ميل إلى بارئه -جل مجده - ، وذلك الميل أمر دقيق لا يتشبح إلا بخليقته ، ومظنته .
[ ص: 271 ]
وخليقته ، ومظنته - على ما أثبته الوجدان الصحيح - : الإيمان بأن
العبادة حق الله تعالى على عباده ؛ لأنه منعم لهم ، مجاز على أعمالهم ، فمن أنكر الإرادة ، أو ثبوت حقه على العباد ، أو أنكر المجازاة ، فهو الدهري الفاقد سلامة فطرته ؛ لأنه أفسد على نفسه مظنة الميل الفطري المودع في جبلته ، ونائبه ، وخليفته ، والمأخوذ مكانه .
وإن شئت أن تعلم حقيقة هذا الميل ، فاعلم أن في روح الإنسان لطيفة نورانية تميل بطبعها إلى الله - عز وجل - ميل الحديد إلى المغناطيس ، وهذا أمر مدرك بالوجدان .
فكل من أمعن في الفحص عن لطائف نفسه ، وعرف كل لطيفة بحالها ، لا بد أن يدرك هذه اللطيفة النورانية ، ويدرك ميلها بطبعها إلى الله تعالى .
ويسمى ذلك الميل عند أهل الوجدان بالمحبة الذاتية ، مثله كمثل سائر الوجدانيات لا يقتنص بالبراهين ؛ كجوع هذا الجائع ، وعطش هذا العطشان .
فإذا كان الإنسان في غاشية من أحكام الطائفة السفلية ، كان بمنزلة من استعمل مخدرا في جسده ، فلم يحس بالحرارة ، والبرودة .
فإذا هدأت لطائفه السفلية عن المزاحمة ، إما بموت اضطراري يوجب تناثر كثير من أجزاء نسمته ، ونقصان كثير من خواصها ، وقواها ، أو بموت اختياري ، وتمسك بحيل عجيبة من الرياضات النفسانية ، والبدنية ، كان كمن زال المخدر عنه ، فأدرك ما كان عنده ، وهو لا يشعره .
فإذا مات الإنسان وهو غير مقبل على الله تعالى ، فإن كان عدم إقباله جهلا بسيطا ، وفقدا ساذجا ، فهو شقي بحسب الكمال النوعي .
وقد يكشف عليه بعض ما هنالك ، ولا يتم الانكشاف لفقد استعداده ، فيبقى حائرا مبهوتا .
وإن كان ذلك مع قيام هيئة مضادة في قواه العلمية أو العملية ، كان فيه
[ ص: 272 ] تجاذب ، فانجذبت النفس الناطقة إلى صقع الجبروت والنسمة بما كسبت من الهيئة المضادة إلى السفل .
فكانت فيه وحشة ساطعة من جواهر النفس ، منبسطة على جوهرها .
وربما أوجب ذلك تمثل واقعات هي أشباح الوحشة كما يرى الصفراوي في منامه النيران ، والشعل ، وهذا أصل توجيه حكمة معرفة النفس .
وكان أيضا فيه تحديق غضب من الملأ الأعلى يوجب إلهامات في قلوب الملائكة ، وغيرها من ذوات الاختيار أن تعذبه ، وتؤلمه .
وهذا أصل توجيه معرفة أسباب الخطرات ، والدواعي الناشئة في نفوس بني آدم .