[ ص: 284 ] باب فيما يجب تقديم ذكره إجمالا
على بيان رد الإشراك تفصيلا
اعلم أن
البشر كلهم عبيد لله تعالى ، وشأن العبد أن يعبد الله ، فمن لم يعبده ، لا يكون له عبدا .
وأصل العبادة : تصحيح الإيمان ، وتقوية الإيقان ، وتحقيق الإذعان ؛ لأن من تطرق إلى إيمانه خلل ، أو وقع فيه زلل ، فلا تقبل منه عبادة أصلا ، ومن أتى بالإيمان الصحيح ، فقليل العبادة منه يقبل .
فعلى كل إنسان أن يصحح إيمانه ، وينقح إيقانه ، ويجهد في ذلك إمكانه ، ويقدمه على كل شيء .
وقد صار الناس في هذا الزمن في أمر الدين على طرائق شتى ، ومذاهب لا تحصرها «إلى » ، و «حتى » .
1-فمنهم : من اتخذ رسوم أسلافه شرعا .
2-ومنهم : من اعتقد قصص أكابره واتخذها مشربا .
3-ومنهم : من استند في طريقه بالسبيل الذي استنبطه العلماء ، وأحدثه الأحبار من تلقاء نفوسهم بذكاوة طبائعهم .
4-ومنهم من يستبد بعقله ، ويفتخر بفضله .
ولا ريب أن الأفضل ، والأحق من جميع هذه: أن يجعل كلام الله تعالى ، وكلام رسوله أصلا ، وبه يستند ، وعليه يعتمد ، ولا يعطي لعقله دخلا فيه .
[ ص: 285 ]
وكل ما وافق من قصص الأكابر ، وأقوال العلماء بهما يقبله ، وما خالفهما فلا يستند به ، بل يرده ، كائنا ما كان ، وأينما كان ، وكذلك كل سمت ، ودل لهم لا يوافق الأصلين يتركه .
وأما قول العامة : إن كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشكل فهمه ، ويعسر فقهه ، وينبغي لدركه علم كبير ، وفضل غزير ، وأنى لنا أن نفهم ذلك، أو ندرك ما هنالك ؟
بل السلوك على ذلك الصراط إنما هو شأن الأكابر الفحول ، وصنيع العلماء الذين لا يحول علمهم ولا يزول .
ومن نحن حتى نسلك هذا المسلك ، أو ندخل في هذا المقام ؟ بل يكفينا تقليدهم ، والتمسك بأقوالهم .
فهذا القول من هؤلاء الجهلة يخالف القرآن العزيز .
فإن الله - سبحانه وتعالى - قال في محكم كتابه :
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون [البقرة : 99] .
وهذا يدل على أن آيات الله واضحة ، وشرائعه باهرة ، ولا إشكال في شيء منها .
إنما الإشكال في السلوك عليها ؛ لأن النفس يسوها امتثال الأوامر ، وإطاعة الآمرين ، فالفاسقون ينكرونها ، ويخالفونها .
وأما كلام الله سبحانه ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة في فهمه إلى مزيد علم ؛ لأن النبي إنما جاء لهداية السفهاء ، وإراءة الطريق الحقة للجهلاء ، وتعليم الذين لم يكن لهم علم أصلا كما قال تعالى :
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [الجمعة : 2] .
فكان
من نعم الله تعالى على عباده أن أرسل إليهم رسولا علمهم العلم ،
[ ص: 286 ] وأذهب عنهم الجهل ، وطهرهم من الأدناس ، وجعل السفهاء منهم الأكياس والحمقاء العقلاء ، والضالين الهداة المهديين .
فمن سمع آية من الكتاب العزيز ، أو حديثا من السنة المطهرة ، وقال : إن كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يفهمهما إلا العالمون ، ولا يسلك مسلكهما إلا الكبراء الفاضلون ، فقد أنكر هو هذه الآيات ، ولم يعرف قدر نعم الله .
بل الذي ينبغي أن يقال : إن الجاهلين يصيرون عالمين بفهم كلامهما ، والضالين يهتدون بالسلوك على صراطهما .
مثال ذلك: أن يكون طبيب حاذق ، ويكون رجل كثير المرض ، شديد السقم :
فيقول رجل لهذا المريض : اذهب إلى الطبيب الفلاني ، واستعلجه ، تشف .
فيجيب المريض : إن الذهاب إليه ، والتداوي منه إنما هو فعل الأصحاء الكاملين ، وأنا مريض شديد المرض ، لا يمكنني ذلك.
فهذا الرجل ما أحمقه ! ينكر حكمة الحكيم ، ويأبى طب الطبيب الحاذق ، ولم يدر أن الطبيب إنما هو يعالج المرضى خاصة .
ومن كان لا يعالج إلا الأصحاء ، ولا ينفع علاجه إلا لهم ، ولا يكون للمرضى فائدة منه ، فليس هو بطبيب أصلا .
والحاصل : أن الجاهل الشديد الجهل : ينبغي له مزيد رغبة في فقه كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأن العاصي الشديد العصيان : ينبغي له مزيد اجتهاد في سلوك سبيل الله ، وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعلى كل عام وخاص أن يحقق معاني كلامهما ، ويفهمهما ، ويسلك على مسلكهما ، ويوفق إيمانه بمدلولهما من النصوص ، والظواهر ، ولا يخاف في الله لومة لائم من الأكابر ، والأصاغر .
[ ص: 287 ]