المسألة الثانية : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على
العفو عن أصحاب الكبائر .
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله :
إن الله لا يغفر أن يشرك به ، معناه : لا يغفر الشرك على سبيل التفضل ؛ لأن بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب ، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه .
فإذا كان قوله :
إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل ، وجب أن يكون قوله :
ويغفر ما دون ذلك هو أن يغفره على سبيل التفضل حتى يكون النفي ، والإثبات متواردين على معنى واحد .
ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلا ، ويعطي زائدا ، فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا .
حتى لو صرح ، وقال : لا يعطي أحدا شيئا على سبيل التفضل ، ويعطي أزيد على سبيل الوجوب ، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام .
فثبت أن قوله تعالى :
ويغفر ما دون ذلك على سبيل التفضل .
إذا ثبت هذا ، فنقول : وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة ؛ لأن عند
المعتزلة غفران الصغيرة ، وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا ، فلا يمكن حمل الآية عليه .
[ ص: 334 ]
فإذا تقرر ذلك، لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة ، وهو المطلوب .
الثاني : أن الله تعالى قسم المنهيات على قسمين : الشرك ، وما سوى الشرك .
ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة ، والكبيرة بعد التوبة ، والصغيرة .
ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا ، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا ، لكن في حق من يشاء .
فصار تقدير الآية : أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك ، لكن في حق من شاء .
ولما دلت الآية على أن
كل ما سوى الشرك مغفور ، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضا مغفورة .
الثالث : أنه تعالى قال:
لمن يشاء فعلق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبيرة بعد التوبة ، وغفران الصغيرة مقطوع به ، وغير معلق على المشيئة .
فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة ، وهو المطلوب .
واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه .
ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية :
بل الله يزكي من يشاء [النساء : 49] .
ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية ، وإلا كان كذبا ، والكذب على الله تعالى محال ، فكذا هاهنا .
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد .
ونحن نعارضها بعمومات الوعد ، والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة «البقرة » في تفسير قوله تعالى :
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة : 81] فلا فائدة في الإعادة .
وروى الواحدي في «البسيط » بإسناده عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=944157كنا على عهد [ ص: 335 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الرجل منا على كبيرة ، شهدنا أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنهما - : إني لأرجو : كما لا ينفع مع الشرك عمل ، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب .
ذكر ذلك عند
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - ، فسكت
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله عنه - .
وروي مرفوعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«اتسموا بالإيمان ، وأقروا به ، فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه ، كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه » .