وقال تعالى:
قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس [الناس].
قال
ابن القيم -رحمه الله تعالى- في
تفسير المعوذتين: وأما سورة الناس، فقد تضمنت أيضا مستعاذا به، ومستعاذا منه، ومستعيذا.
فأما المستعاذ به، فهو رب العالمين، رب الناس، ملك الناس، وإله الناس.
فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وألوهيته لهم.
ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان.
فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم، وتربيتهم،
[ ص: 53 ] وتدبيرهم، وإصلاحهم، وحفظهم مما يفسدهم، وهذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدرته التامة، ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده، ومماليكه، وهو المتصرف بهم، المدبر لهم كما شاء، النافذ القدرة فيهم، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به.
وأضافهم في الكلمة الثالثة إلى ألوهيته لهم.
قهر إلههم الحق، ومعبودهم المطلق، الذي لا إله سواه، ولا معبود لهم غيره.
فكما صح أنه وحده ربهم، ومليكهم، لم يشاركه في ربوبيته، ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم، ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعل معه شريكا في الإلهية، والمعبودية، كما لا ينبغي أن يجعل معه شريكا في ربوبيته، وملكه.
وهذا طريق القرآن يحتج عليهم -سبحانه وتعالى- بإقرارهم هذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الألوهية والعبادة.
فإذا كان هو ربنا، ومليكنا، فلا مفزع لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعي إلا إياه، ولا يخاف، ولا يرجي، ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره، ولا يخضع إلا له، لا لسواه، ولا يتكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه، أو تخافه، أو تدعوه إما أن يكون مربيك، والقيم بأمورك، فلا رب لك سواه، أو يكون ملكك، ومعبودك الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم مماليكه، وعبيده، أو يكون معبودك، وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك، وحياتك، وهو إله الخلق، وإله الناس الذي لا إله لهم سواه، فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه.
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى العدو، وأعظمهم عداوة.
[ ص: 54 ]
ثم إنه -سبحانه وتعالى- كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضمر موقعه، فيقول: رب الناس، وملكهم، وإلههم؛ تحقيقا لهذا المعنى.
فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو؛ لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
وقدم الربوبية؛ لعمومها، وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية؛ لخصوصها، لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده، ووحده، واتخذه إلها دون غيره.
فمن لم يعبده، ويوحده، فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه، ولا مستحق للعبادة إلا إياه، لكنه ترك إلهه الحق، واتخذ إلها غيره.
ووسط صفة «الملك» بين الربوبية، والألوهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله، وأمره مطاع إذا أمر.
فملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه، وملكه يستلزم إلهيته.
فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية، وقهرهم بالملك، واستعبدهم بالألوهية، فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني جميع أسمائه الحسنى.
تضمن سورة «الناس» لأسماء الله الحسنى.
أما تضمنها المعاني أسمائه الحسنى، فإن الرب هو القادر، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي، النافع، الضار، المقدم، المؤخر، يهدي، ويضل، ويشقي، ويسعد، ويعز، ويذل، إلى غير ذلك من معاني الربوبية.
وأما «الملك»، فهو الآمر الناهي، المعز، المذل، والذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كيف يشاء.
فهو العزيز، الجبار، المتكبر، الخافض، الرافع، القابض، الباسط، العظيم، الجليل، الولي، المتعال، الملك، القدوس، المقسط، الجامع، إلى
[ ص: 55 ] غير ذلك من الأسماء العائدة إلى معاني الملك.
وأما «الإله»، فهو الجامع لجميع صفات الكمال، الحاوي لتمام نعوت الجلال والجمال، فيدخل في هذا جميع الأسماء الحسنى.
ولهذا كان القول: إن «الله» أصله: الإله، وإن
اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا.
وأسرار أحكام الله تعالى أعز وأجل من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال على ما يظهر منها على ما وراءه. انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-.
وبنحوه قرر الكلام، وحقق المقام في تفسير سورة «الفلق» أيضا، فراجعه.
* * *