وقال تعالى :
ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة [الأحقاف : 5] ؛ أي : لا أحد أضل منه ، ولا أجهل .
فإنه دعا من لا يسمع ، فكيف يطمع في الإجابة ، فضلا عن جلب نفع أو دفع ضر ؟ . فتبين أنه أجهل الجاهلين ، وأضل الضالين . والاستفهام للتوبيخ والتقريع .
ويوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، والمراد بها التأكيد ؛ كقوله تعالى :
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ص : 78] . قاله الشهاب .
وقال في «الانتصاف » في هذه الغاية نكتة ، وهي أنه تعالى جعل عدم الاستجابة مغيا بيوم القيامة ، فأشعرت الغاية بانتفاء الاستجابة في يوم القيامة على وجه أبلغ وأتم وأوضح وضوحا ، ألحقه بالبين الذي لا يتعرض لذكره ؛ إذ هناك تتجدد العداوة والمباينة بينها وبين عابديها .
الضمير في قوله :
وهم عن دعائهم غافلون الأول للأصنام ، والثاني لعابديها .
والمعنى :
الأصنام التي يدعونها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون ؛ لكونهم جمادات ، فالغفلة مجاز عن عدم الفهم فيهم . وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء ؛ لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل . قاله المفسرون .
وأقول : الاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ؛ فالآية شملت كل مدعو من دون الله ، من كل داع ، حيا كان أو ميتا .
والدعاء هو العبادة ، فمن عبد غير الله ، دخل في هذه الآية ، ومعبوده غافل من عبادته هذه، ولا يستجيب له يوم البعث أيضا .
[ ص: 418 ]
قال بعض أهل العلم في هذه الآية : يعني : أن هؤلاء المشركين ، هم أشد حماقة في حالهم . تركوا الله القادر العليم ، ودعوا غيره مما لا يقدر على شيء ، ولا يعلم بشيء .
وبيان الحماقة أولا : أنهم لا يسمعون دعاء هؤلاء أصلا ، ولا يعقلونه .
وثانيا : لا قدرة لهم على شيء ، لو دعاهم داع إلى يوم القيامة ، لا يتمكنون من شيء من دعائه والاستجابة له .
فهذه الآية قد علم منها أن بعض المشايخ الذين يدعونهم الناس من أمد بعيد ، ومراحل شاسعة ، وأمكنة قصوى ، ولا يقولون في دعائهم إلا قولهم هذا : يا فلان الحضرة ! ادع الله تعالى ، يقضي بقدرته حاجتي الفلانية .
ويرون أن هذا ليس من الشرك في شيء ؛ لأنهم لم يدعوه ، ولم يعبدوه ، بل طلبوا منه الدعاء في جناب الباري -تعالى شأنه - .
فهذا غلط منهم وهفوة لا يعبأ بها ؛ لأنا سلمنا أن الشرك لم يثبت من قبل دعاء الله تعالى في هذا الأمر ، ولكن ثبت من جهة نداء غير الله ؛ فإنه لم يدعهم إلا بعد أن اعتقد أنهم يسمعون نداءه ودعاءه من قريب وبعيد سواسية ، فكلما ندعوهم ، يسمعون دعاءنا ونداءنا ، وهذا هو الشرك المحض .
وقد قال تعالى في هذه الآية : إن كل من دون الله ، لا يستجيب للداعي المنادي ، بل هو عن صنعه هذا في غفلة . فإذا ثبت كونهم غافلين ، فدعاؤهم لا يأتي إلا من المشركين الجاهلين ، وفيه الشرك ، وهو المنهي عنه ، ولأجله أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب .