كلام نفيس
للشيخ صنع الله الحنفي
في
الرد على من يدعون أن الأولياء يتصرفون في الحياة وبعد الممات
قال الشيخ
صنع الله الحنفي في كتابه، في الرد على مدعي التصرف للأولياء في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة ما لفظه:
هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على ذلك بأن هذا منهم كرامة، وقالوا: منهم أبدال، ونقباء، وأوتاد، ونجباء سبعون، أو سبعة وأربعون، وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور.
قال: فهذا كلام فيه إفراط وتفريط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمد؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز
[ ص: 263 ] المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.
وفي التنزيل:
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115].
قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:
أإله مع الله [النمل: 60]،
ألا له الخلق والأمر [الأعراف: 54]
ولله ملك السماوات والأرض [آل عمران: 189]، ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره بوجه من الوجوه، لا من الخلق، ولا من الأمر.
بل الكل تحت ملكه وقهره، تصرفا، وإحياء، وإماتة، وخلقا وملكا.
وتمدح الرب - تبارك وتعالى - بملكه في آيات من كتابه، كقوله:
هل من خالق غير الله [فاطر: 3]،
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير [فاطر:13]، الآية وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قال: فقوله في الآيات كلها: «من دونه» معناه: من غيره، وهو عام يدخل فيه كل من اعتقدته من ولي، وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر لنفسه، كيف يمد غيره؟.
قال: فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف؟ بل إن هذا القول وخيم، وشرك عظيم.
قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول الأول، وهو التصرف في الحياة، قال جل ذكره:
إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر: 30]
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [الزمر: 42]،
كل نفس ذائقة الموت [الأنبياء: 35]
كل نفس بما كسبت رهينة [المدثر: 38].
وفي الحديث:
nindex.php?page=hadith&LINKID=10564«إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث. فجميع ذلك، وما هو نحوه، دال على انقطاع الحس والحركة من الميت،
[ ص: 264 ] وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان.
فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن غيره.
فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟.
والله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة
قل أأنتم أعلم أم الله [البقرة: 140].
قال: وأما اعتقاد أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة ؛ لأن
الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا قدرة، ولا علم ؛ كما في قصة
مريم - عليها السلام -،
وأسيد بن حضير، nindex.php?page=showalam&ids=12150وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع؛ لمصادمة قوله - جل ذكره -:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله [النمل: 62]،
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر [الأنعام: 63]، وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غير، وأنه متفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك.
فإذا تعين هو - جل ذكره -، خرج غيره، من ملك، ونبي، وولي، وغيرهم.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية، في قتال، أو إدراك عدو، أو سبع، أو نحوه ؛ كقولهم: يا لزيد! يا للمسلمين! بحسب الأفعال الظاهرة.
وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد ؛ كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله، لا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب،
والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات.
.
[ ص: 265 ] فمن اعتقد أن لغير الله، من نبي أو ولي أو روح، أو غير ذلك في كشف كربة، أو قضاء حاجة تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا الله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة.
فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن:
شفعاؤنا عند الله [يونس: 18]
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3]،
أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون [يس: 23].
فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر؛ من نبي، وولي، وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوه: إن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين، وسبعة، وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث في «سراج المؤيدين»،
وابن الجوزي، وشيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمهم الله تعالى -. انتهى حاصله.
والحاصل: أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى، واعتقدها أهل الأهواء.
ولو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية، لطال الكتاب.
والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان، فقوله ظاهر للبطلان، ما خالف لما عليه أهل الحق والإيمان، المتمسكين بمحكم القرآن، المستجيبين لداعي الحق والإيقان.
وقال تعالى:
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [يونس: 106].
قال
ابن عطية: هذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كذلك، فأحرى أن يتحذر من ذلك غيره.
[ ص: 266 ] والخطاب خرج مخرج الخصوص، وهو عام للأمة.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في هذه الآية: يقول تعالى: ولا تدع يا
محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك: الآلهة.
يقول: لا تعبدها راجيا نفعها، أو خائفا ضرها ؛ فإنها لا تضر ولا تنفع، فإن فعلت ذلك ودعوتها من دون الله فإنك إذا من الظالمين؛ أي: المشركين بالله.
وهذه الآية لها نظائر، كقوله سبحانه:
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [الشعراء: 213]، وقوله:
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو [القصص: 88].
ففي هذه الآيات: أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله، لا يصلح منها شيء لغيره.
ولهذا قال:
لا إله إلا هو ، كما قال تعالى:
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير [الحج: 62]، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل لأجله كتبه ؛ كما قال:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5].
والدين: كل ما يدان الله به، من العبادات الباطنة والظاهرة.
وفسره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في «تفسيره» بالدعاء، وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير، يفسرون الآية ببعض أفراد معناها.
فمن صرف منها شيئا لقبر، أو صنم، أو وثن، أو غير ذلك، فقد اتخذه معبودا، أو جعله شريكا لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى:
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [المؤمنون: 117].
[ ص: 267 ] فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غيره تعالى كفر واضح، وشرك جلي، وضلال صريح.
وقد دل قوله سبحانه:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [يونس: 107] على أنه سبحانه هو المتفرد بالملك، والقهر، والعطاء، والمنع، والضر، والنفع، دون كل ما سواه.
فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك النفع والضر، ولا يملك ذلك ولا شيئا مما هنالك غيره، كائنا من كان من أوليائه، وأعدائه، فهو المستحق للعبادة والدعوة وحده، دون من لا يضر ولا ينفع.
وقال تعالى:
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره [الزمر: 38]، وقال:
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [فاطر: 2] الآية، فهذا مما أخبر الله به في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصب الأدلة على ذلك.
وعباد القبور قد اعتقدوا نقيض ما أخبر الله به، واتخذوهم شركاء له في استجلاب المنافع ودفع المكاره ؛ بسؤالهم إياهم، والالتجاء إليهم بالرغبة، والرهبة، والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله وحده لا شريك له، واتخذوهم شركاء في ربوبية وإلهية.
وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3]،
هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18].
فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وأما هؤلاء المشركون، فاعتقدوا في أهل القبور، وفي مشاهد الأولياء ما هو أعظم من ذلك.
[ ص: 268 ] فجعلوا لهم نصيبا من التصرف في العالم، والتدبير في أهله، وجعلوهم معاذا لهم وملاذا في الرغبوت والرهبوت، سبحان الله عما يشركون.
ونفقوا حكايات دالة على تصرفهم، وإيصال النفع إلى معتقديهم ومريديهم، وهي كلها من أبطل الباطلات، وأجهل الجهالات.
وقال تعالى:
فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له [العنكبوت: 17].
أمر عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دون ما سواه ؛ ممن لم يملك لهم رزقا من السماوات والأرض.
فتقديم الظرف أفاد الاختصاص،
واعبدوه من عطف العام على الخاص ؛ فإن طلب الرزق من الله من العبادة التي أمر بها.
قال
ابن كثير: معناه: ابتغوا عند الله الرزق، لا عند غيره؛ لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك، وأخلصوا له العبادة وحده لا شريك له،
واشكروا له على ما أنعم عليكم
إليه ترجعون فيجازي كل عامل بعمله.
وقال في قوله تعالى:
ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له [الأحقاف: 5] الآيتين: نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة.
والآية تعم كل من يدعى من دون الله ؛ كما قال سبحانه:
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [الإسراء: 56].
فأخبر في هذه الآية أنه لا يستجيب، وأنه غافل عن دعائه،
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [الأحقاف: 6]، فتناولت الآية كل داع، وكل مدعو من دون الله.
قال
أبو جعفر بن جرير: يقول تعالى: وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب، كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء، لأنهم
[ ص: 269 ] يتبرؤون منهم، وكانت لعبادتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا جاحدين ؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا ؛ كما قال سبحانه:
ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [ الفرقان: 17-18] إلخ. قال:
من دون الله : أي: من الملائكة، والإنس، والجن. وساق بسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد، قال:
عيسى، وعزير، والملائكة.
قال: يقول الله: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله،
وعيسى: تنزيها لك يا ربنا مما أضاف إليك هؤلاء المشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء نواليهم، أنت ولينا من دونهم، انتهى.