فصل: وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يبين بأصول جامعة نافعة
الأول: أن
ما يصيب المؤمنين من الشرور، والمحن، والأذى، دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك.
وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة.
الأصل الثاني: أن
ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضاء والاحتساب، فإن فاتهم الرضاء، فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ومعان عليه.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب، ورسخت، كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى.
والمحبون يفتخرون بذلك، كما قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالكا
الأصل الخامس: أن
ما يصيب الكافر الفاجر؛ من العز، والنصر، والجاه، دون ما يحصل للمؤمنين، بل باطن ذلك ذل وكسر.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال فإن ذل المعصية في قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
[ ص: 401 ] الأصل السادس: أن
ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة.
ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمنين من عدمه؛ ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب.
يبتلى المرء على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة، خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه سيئة.
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له في بعض الأحيان، أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم، والغموم، لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى الأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.
فلو تجرد الخير في هذا عن الشر، لكان عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وفاتت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر.
وإنما يكون تخليص هذا عن هذا وتمييزه في دار غير هذه الدار كما قال تعالى:
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون [الأنفال: 37].
الأصل الثامن:
أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا، فيه حكم عظيمة، لا يعلمها -على التفصيل- إلا الله.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين، لبطروا، أو أشروا.
فجمع لهم بين كونهم غالبين تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه.
وإذا غلبوا، أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
[ ص: 402 ] ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين، لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإنما انضاف إلى من له الغلبة والعزة.
ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما، لم يدخل معهم أحد.
فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة.
فيتميز بذلك من يريد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديته، على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء.
فله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا يحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر، والبرد، والجوع، والعطش، والتعب، والنصب، وأضدادها.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار يوم «أحد»:
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إلى قوله:
وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران: 139 144].
ذكر سبحانه أنواعا من الحكم، التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم، وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله.
ثم أخبرهم: أنه بحكمته سبحانه يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها؛ كالأرزاق، والآجال.
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه، وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا.
ثم أخبر سبحانه أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء؛ فإن الشهادة درجة عالية، ومنزلة رفيعة، لا تنال إلا بالقتل في سبيله.
[ ص: 403 ] ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين (أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه) وأنه يريد أن يمحق الكافرين، ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم، إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك.
الأصل التاسع: أنه سبحانه إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها؛ ابتلاء لعباده؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها.
قال تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [هود: 7] وقال:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [الكهف: 7] إلى غير ذلك من الآيات.
والامتحان لا بد منه للمؤمن والكافر.
فالمؤمن: ليتبين هل هو صادق في إيمانه؟ وغير المؤمن يمتحن في الآخرة بالعذاب، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها.
فلا بد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة، لكل أحد.
ولكن المؤمن أخف محنة، وأسهل بلية؛ فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويرزقه من الصبر والثبات، والرضاء والتسليم ما يهون محنته.
وأما الكافر والفاجر، فتشتد محنته وبليته، وتدوم.
الأصل العاشر: هو أن الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات واعتبارات، يطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه.
[ ص: 404 ] فلا بد من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم، أو مخالفتهم.
وفي الموافقة ألم وعذاب، إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إن لم يوافق أهواءهم.
ولا ريب أن ألم المخالفة في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المرتب على موافقتهم.
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم.
فإن لم يوافقهم آذوه، وظلموه، وعادوه. لكن تكون له العاقبة والنصر عليهم، إن صبر واتقى.
وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه.
والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم، فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة يعقبها ألم عظيم دائم.
الأصل الحادي عشر: أن
البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام:
1 - في نفسه 2- أو في ماله 3 - أو في عرضه 4 - أو في أهله ومن يحب. والذي في نفسه، قد يكون بتلفها وبتألمها.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس، ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون.
وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة.
فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم.
[ ص: 405 ] فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل.
ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش.
وقد أكذب الله هذا الظن؛ حيث يقول:
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا [الأحزاب: 16] إذ لا بد من الموت، فيفوته بهذا القتل ما هو خير منه وأنفع؛ من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال:
قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [الأحزاب: 17] وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فهكذا الأمر في مصيبة المال، والعرض، والبدن، وأن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله، وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا.
وإن حبسه وادخره، منع التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنأه، وعلى مخلفه وزره.
وكذلك من رفه بدنه، أو عرضه، وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
قال أبو حازم: لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى.
واعتبر ذلك بحال إبليس؛ فإنه امتنع من السجود لآدم؛ فرارا من أن يخضع له ويذل، فطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام، أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، ورضوا أن يعبدوا إلها من الأحجار.
[ ص: 406 ] وكذلك كل من امتنع أن يذل، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه في طاعته، لا بد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف: من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته، أمشاه الله أكثر منها في غير طاعته.