فصل
ورهبانهم ليسوا على شيء من الدين، وإنما مدار أمرهم على نصب حبائل الحيل؛ ليقنصوا بها عقول العوام، ويستدروا أموالهم.
فمن ذلك ما يفعلونه في عيدهم المسمى «عيد النور» ببيت المقدس.
يجتمعون إلى بيت فيه قنديل معلق، لا نار فيه، فإذا تلا أحبارهم الإنجيل، ورفعوا أصواتهم، وابتهلوا بالدعاء، إذا نار قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالة القنديل، فيشرق ويشتعل، فيضجون ضجة واحدة، ويأخذون في البكاء والشهيق.
قال
أبو بكر الطرطوسي: فلما كان ببعض السنين، نمى هذا الخبر إلى وال لبيت المقدس في ذلك العام، يسمى: «سقمان» فأنفذ إلى بتاركهم: إني نازل إليكم في يوم هذا العيد لأكشف حقيقة ما تقولون.
فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة فيه، أقررتكم عليه، وعظمته بعلم، وإن كان مخرفة على عوامكم، أوقعت بكم ما تكرهون.
فصعب ذلك عليهم جدا، وسألوه ألا يفعل، فأبى، فحملوا له مالا عظيما، فأخذه، وأعرض عنهم.
[ ص: 442 ] قال
الطرطوسي: ثم اجتمعت
بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس، ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان، والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس.
وقد عظموا ذلك البيت، ولا يمكنون أحدا من دخوله، وفي رأس القبة رجل فإذا قسموا ودعوا، ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط، فيجري النار مع دهن اللبان، حتى تلقى الفتيلة.
ومن حيلهم أيضا: أنه كان بأرض الروم في زمن
«المتوكل» كنيسة إذا كان في يوم عيدها، يحج الناس، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم، يخرج منه اللبن، وكان يجتمع للسادن ذلك اليوم مال عظيم.
فبحث الملك عنها، فانكشف أمرها، فوجدوا القيم قد نقب من وراء الحائط نقبا إلى ثدي الصنم، وجعل فيها أنبوبة من رصاص، وأصلحها بالجير ليخفى أمرها، فإذا كان يوم العيد فتحها، وصب اللبن فيها، فيجري إلى الثدي، فيقطر منه.
فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم، وأنها علامة من الله لقبول قربانهم.
فلما انكشف له أمر بضرب عنق السادن، ومحق الصور من الكنائس.
ومن عجائب ما وقع من هذه الأمة: أنهم زادوا جمعة في ابتداء صومهم، يصومونها لـ «هرقل» ملك بيت المقدس.
وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود، وأكثروا من قتل النصارى معهم، بل كانوا أكثر فتكا فيهم من الفرس.
فلما سار
«هرقل» استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا، ففعل، فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما فعله اليهود
[ ص: 443 ] بهم، فقال لهم «هرقل»: وما تريدون مني؟ قالوا: تقتلهم، قال: كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا، وأنتم تعلمون ما في نقض العهد؟! فقالوا: إنك حين أعطيتهم العهد لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى، وهدم الكنائس، وقتلهم قربان إلى الله، ونحن نتحمل عنك هذا الذنب، ونسأل المسيح ألا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم، نصومها، ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية، ونكتب بذلك إلى جميع الآفاق.
فأجابهم، وقتل من اليهود -حول بيت المقدس وجبل الخليل- ما لا يحصى كثرة، وأهل بيت المقدس،
وأهل مصر، يصومون تلك الجمعة، وبقية أهل الشام والروم يتركون أكل اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة.
ومن تلاعبه بهم: أعيادهم؛ فإنها كلها موضوعة، محدثة بآرائهم.
فمنها «عيد ميكائيل» سببه أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، فأراد «بترك» منهم كسره، فامتنعوا، فاحتال عليهم، فقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر، فلو جعلتم هذا العيد، والذبائح لمكائيل، ملك الله، لشفع لكم عند الله، فأجابوه إلى ذلك، وإلى كسر الصنم، فنقلهم من كفر إلى كفر.
وكذا «عيد الصليب» وهو -على زعمهم- في الوقت الذي ظهر فيه صليب عيسى، الذي صلب عليه بعد أن خفي عليهم.
وجعل اليهود موضعه مزبلة لما كان النصارى يترددون إليه، ويتبركون به، ويحكون في ذلك حكاية لا أصل لها، ويقضي بفسادها العقل؛ لطول المدة.
ولا يبقى العود تحت التراب ثلاثمائة وثمانية وعشرين سنة؛ فإنه يبلى لدون هذه المدة، ولغير ذلك مما اشتملت عليه تفاصيل هذه الحكاية من النكارة.