صفحة جزء
ذهاب العلم وقبضه في آخر الزمان

وعن أبي السمح، قال: يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تقعد شحما، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تصير نقضا، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن.

قلت: ولعل أبا السمح أخذ ذلك من حديث: «اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فيسألوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» والحديث بطوله صحيح، روي عن ابن عمر.

وأخرج ابن عبد البر بسنده عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين، ما بعثني الله به، حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسيرها، أو قال: آخرها، حتى لا يكون فيه إلا فاسق أو فاسقان، فهما مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا، قمعا، وقهرا، واضطهدا».

[ ص: 266 ] ثم ذكر: «أن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها العلم من عند أسيرها، حتى لا يبقى إلا فقيه أو فقيهان، فهما مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا، قمعا، وقهرا، واضطهدا».
الحديث.

وقد وقع كل ذلك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم أن اسم «الفقيه» في السنة السنية، وجماعة السلف المرضية، إنما يقع على من علم الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، ومن تبعهم بالإحسان.

وأما من اشتغل بالرأي والظن، واتخذهما دينا ومذهبا، ونبذ كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقضايا السلف من الصحابة والتابعين، وآثارهم المستندة إليهما من وراء ظهره، فلا يطلق عليه اسم «الفقيه» بل هو باسم أهل الهوى والعصبية أولى وأحرى.

ولقد شاهدنا في زماننا هذا ما قاله أبو السمح، فقد طفت من أقصى المغرب ومن أقصى السودان إلى الحرمين الشريفين -زاد الله شرفهما- فلم ألق أحدا يسأل عن نازلة فيرجع إلى كتاب رب العالمين، وسنة سيد المرسلين، وآثار الصحابة والتابعين، إلا ثلاثة رجال، كل واحد منهم كان مقموعا محسودا، يبغضه جميع من في بلده من المتفقهين والظانين، وغالب من فيه العوام، والمتسمون بسيما الصالحين.

وموجب العداوة بهم، والحسد معهم، هو تمسكهم بالكتاب والسنة، وتركهم كلام الطائفة العصبية والمقلدين.

روى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى عطاء عن أبيه، قال: سئل بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فقال: إني لأستحيي من ربي أن أقول في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- برأيي.

[ ص: 267 ] قال عطاء: أضعف العلم علم النظر، أن يقول الرجل: رأيت فلانا يفعل كذا، ولعله فعله ساهيا، أو خاطئا.

وقال ابن المقنع: لعمري! إن لقولهم: ليس الدين بالخصومة أصلا يثبت.

وصدقوا، فما الدين بالخصومة، ولو كان خصومة لكان موكولا إلى الناس يثبتونه بآرائهم وظنونهم.

وكل موكول إلى الناس رهين ضياع.

وما ينقم أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأيا، وليس الرأي ثقة، ولا حتما، ولم يجاوز الرأي منزلة الشك والظن إلا قريبا، ولم يبلغ أن يكون يقينا ولا ثبتا، ولستم بسامعين أحدا يقول الأمر قد استيقنه وعلمه، أنه يرى كذا وكذا.

فلا أجد أحدا أشد استخفافا بدينه ممن اتخذ رأيه ورأي الرجال دينا مفروضا.

قال ابن عبد البر: وإلى هذا المعنى -والله أعلم- أشار مصعب بن الزبير في قصيدة، حيث قال:

أأقعد بعد ما رجعت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني     أجادل كل معترض خصيم
وأجعل دينه عرضا لديني     فأترك ما علمت لرأي غيري
وليس الرأي كالعلم اليقين     وما أنا والخصومة وهي لبس
تصرف في الشمال وفي اليمين     وقد سنت لنا سنن قوام
يلجن كل فج أو وجين     وكان الحق ليس به خفاء
أغر كغرة الفلق المبين     وما عوض لنا منهاج جهم
بمنهاج ابن آمنة الأمين     فأما ما علمت فقد كفاني
وأما ما جهلت فجنبوني     فلست بمكفر أحدا يصلي
ولم أخبركمو أن تكفروني [ ص: 268 ]     وكنا إخوة نرقى جميعا
فنرقى كل مرتاب ظنين     وما برح التكلف أن رمينا
لشأن واحد فوق الشؤون     فأوشك أن يخر عماد بيت
وينقطع القرين من القرين



قال: ولا أعلم بين متقدمي هذه الأمة وسلفها خلافا في أن الرأي ليس بعلم حقيقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية