صفحة جزء
منقبة الصحابة -رضي الله عنهم-

عن أبي بردة -رضي الله عنه- عن أبيه، هو أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-، قال: رفع -يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء»؛ أي: سبب أمن لها، «فإذا ذهبت النجوم، أتى السماء ما توعد»؛ أي: من الانشقاق والطي. كما قال تعالى: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت [التكوير: 1- 2] و إذا السماء انفطرت [الانفطار: 1]، و إذا السماء انشقت [الانشقاق: 1]، «وأنا أمنة لأصحابي» الأمنة -بفتحات- بمعنى: الأمن، ومنه قوله تعالى: إذ يغشيكم النعاس أمنة [ ص: 483 ] [الأنفال: 11]، أو جمع «أمين» بمعنى: الحافظ، كسفير وسفرة، أو جمع «آمن»؛ كـ «بار»، وبررة، ويروى -بسكون الميم-: مرة من الأمن. وعلى كل تقدير، لفظ الجمع بالنسبة إليه -صلى الله عليه وسلم- من قبيل إن إبراهيم كان أمة [النحل: 120]، «فإذا ذهبت أنا، أتى أصحابي ما يوعدون» من الفتن والحروب والآفات والدواهي وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون من غربة الإسلام، وفساد الأمة، وافتراقها على فرق وأحزاب متحزبة، وجموع متباينة ومن البدع والحوادث، وذهاب الخير، ومجيء الشر. رواه مسلم.

هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفيه بيان فضيلة الصحابة، وأنهم أمنة للأمة، وإخبار بما سيكون بعدهم؛ من ترك العمل بالكتاب والسنة، وحدوث البدع المضلة، وقد وقع كما أخبر به الصادق المصدوق؛ هذا الخليفة الرابع لما استشهد، تمت الخلافة الراشدة. وهذه القرون المشهود لها بالخير لما انقرضت، رفعت الفلاسفة رؤوسهم، وحدثت البدع الكثيرة، وازدادت كل يوم إلى يومنا هذا، إلى أن صار المعروف من الدين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

قامت كتب الرأي والقياس مقام زبر الحديث، وجلست علوم الأوائل مجلس دراسة الكتاب العزيز، وقالت أفراخ اليونان من متكلمي الإسلام ومتفلسفة هذه الأمة: إن العلم هو هذا العلم، وأما المعرفة بالقرآن والحديث، فليس من العلم في شيء، ورموا أهل السنة والكتاب بكل حجر ومدر، واستهزأوا بهم، وسخروا منهم، وضحكوا عليهم، وسجلوا لهم بالجهل والسفه، وجاؤوا بكل شبهة في الإسلام وعقائده، وبكل رذيلة لأهله. ولم يكن من هذا شيء في زمن الصحابة إلى أن ذهبوا من الدنيا، وبقي هذه الحثالة من الناس، فذهب الأمن بذهابهم، وأتى ما وعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم. فليبك على الإسلام من كان باكيا؛ فإن القضية قد انعكست، والمواعيد قد وقعت، اللهم ثبت قلوبنا على دين الإسلام، واختم لنا بالخير.

[ ص: 484 ] وعن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح». قال الحسن: فقد ذهب ملحنا، فكيف نصلح؟! رواه في «شرح السنة».

قال في «الترجمة»: تأسف على ذهاب بعض الصحابة مع وجود أكثرهم في زمنه؛ لأن الحسن البصري مات في سنة 103. انتهى.

قلت: وإذا كان هذا التأسف من هذا التابعي، مع عدم ذهاب جميعهم، فنحن الأولى بهذا التحسر والأسف. فقد فقد ملحنا، وذهب من زمن طويل عريض، وفسد طعامنا الذي كان عبارة عن العلم بالكتاب والسنة، والعمل بهما جميعا، دون غيرهما من البدع المحدثة، والآراء المختلفة، والقياسات المؤتلفة، والتقليدات المشؤومة.

وعن عبد بن بريدة -رضي الله عنه- عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

فيه صفة الصحابة وفضيلتهم، وأنهم قادة، وأنوار لمن تبعهم بالإحسان يوم الجزاء. وهذا كما ورد في المأثور: فإن الله جعلهم أنصار دينه، وأعوان ملة رسوله، وبهمتهم ظهر الإسلام وغلب الدين على جميع الأديان، وهدى الله بهم أمما لا تحصى، وأجيالا لا تستقصى، في مشارق الأرض ومغاربها. وهذه فتوحاتهم في كتب السير والتاريخ شاهدة لذلك. ومن هنا علم أن حقهم على رقاب الأمة عظيم جدا، يجب لحاظه كل وقت في كل زمان، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

[ ص: 485 ] وعن جابر -رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني»؛ أي: ومات على الإسلام. رواه الترمذي .

فيه منقبة الصحابة، ومنقبة التابعين لهم بالإحسان.

قال في «الترجمة»: خصص هذا الحديث هذه البشارة بالصحابة والتابعين اتفاقا منهم، ولا يختص به العشرة المبشرة، ولا من بشرهم بدخول الجنة من غيرهم، بل يشمل جميع المؤمنين والمسلمين، ولكن الصحابي والتابعي والمسلم هو من مات على الإسلام. وهذا الخبر لا يعلم إلا من بيان المخبر الصادق وتبشيره به، ومن هذه الجهة، خصصت جماعة يقال لها المبشرة. ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى الموت على الإيمان كما في حديث آخر: من زار قبري، وجبت له الجنة». انتهى كلام الترجمة.

وأقول: ظاهر الحديث تخصيص الصحابة والتابعين بهذه البشارة، وليس في لفظه ما يدل على شمول سائر المسلمين إلى يوم الدين، بل قصر تبع التابعين أيضا عن الدخول فيه. والحديث أفاد أن البشارة خاصة بمن رأى الصحابي، فمن لم يره، وكان في زمنه، فالحديث لا يشمله. والله أعلم.

وعن عمر - رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب الحديث بطوله رواه النسائي، وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، فإنه لم يخرج له الشيخان، وهو ثقة ثبت، ذكره الجزري، كذا في «المرقاة»، و «اللمعات».

قال في «الترجمة»: وكيف لا يكونون خيارهم، وقد صحبوه، ولازموا حضرته، وحضروها غدوا وعشيا، وصبحا ومساء، وتعلموا منه -صلى الله عليه وسلم- العلم والعمل والحال، وهم نظار جماله، ومشاهدو طلعته الكاملة!

[ ص: 486 ] قال أبو طالب المكي: النظرة الواحدة على جمال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تري شيئا، وتفتح أمرا لا يرى ولا يفتح في الأربعينات والخلوات، لا شركة لأحد من الأمة بهم في الإيمان العياني واليقين الشهودي. انتهى.

وهذا الحديث دل على مزيد فضل الصحابة والتابعين وتبعهم، وعلى أن هذه الطوائف الثلاثة خيار الأمة وسادتها، محكوم عليها بالعدالة، إلا نادرا من جهة عدم العصمة، والأمر بعدها بالعكس، كما قال: «إن الكذب يظهر، وتشيع الخيانة في الدين والدنيا».

قال في «الترجمة»: أي بظهور البدع وشيوع الأهواء، وإن كان حدوث بعض هذه الأمور؛ كالقدر، والاعتزال، والإرجاء في أواخر هذه القرون، ولكن كان ظهورها وشيوعها بعدهم. انتهى.

قلت: ومن هنا يظهر أن التمسك في الدين، لا بد أن يكون بهؤلاء، ويكون السلوك بسبيلهم؛ فإنهم أهل عدل، ولا ينبغي أن يتمسك برأي من جاء بعدهم؛ فإنه لا يأمن من الوقوع في البدع والأهواء، ومفاسد الآراء.

وهذا يجتث التقليد من أصله وفرعه، ويحث على الاتباع والتقوى، والاقتداء بالسلف الصالح. اللهم ارزقنا.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تسبوا أصحابي الظاهر أن الخطاب لمن بعد الصحابة، نزلوا منزلة الموجودين الحاضرين.

وقيل: الخطاب للموجودين من القوم في ذلك الزمان، الذين لم يصاحبوه -صلى الله عليه وسلم-، ويفهم خطاب من بعدهم بدلالة النص.

قال السيوطي : الخطاب بذلك للصحابة؛ لما ورد أن سبب الحديث أنه كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فالمراد بهم: هم السابقون على المخاطبين في الإسلام. والله أعلم.

قلت: ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا الصحبة نهوا عن [ ص: 487 ] هذا فيما بينهم، مع اشتراكهم في فضيلة الصحابة، فغيرهم ممن ليس بصحابي ولا في رتبة أدنى منهم، أولى بهذا النهي.

فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه متفق عليه. المد: كيل يسع رطلا وثلثه، وأحد: جبل بالمدينة. ومن هنا قالوا: إن فضيلة الصحابة بمعنى كثرة الثواب. والنصيف: النصف، وقيل: مكيال وزن المد، وعلى الأول ضمير نصيفه للمد، وعلى الثاني، لأحدكم.

قال في «شرح مسلم»: اعلم أن سب الصحابة حرام، ومن أكبر الفواحش، ومذهبنا ومذهب الجمهور: أنه يعزر. وقال بعض المالكية: يقتل، وقال عياض: سب أحدهم من الكبائر، وقد صرح بعض علمائنا بأنه يقتل من سب الشيخين. ففي «الأشباه»: كل كافر تاب، فتوبته مقبولة في الدنيا والآخرة، إلا جماعة: الكافر بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسب الشيخين، أو أحدهما، أو بالسحر، أو بالزندقة -ولو امرأة- إذا أخذ قبل توبته، انتهى ما في «المرقاة».

وأقول: في الحديث: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، وهذا يدل على أن سب أحد من آحاد المسلمين كبيرة، فما «ظنك بمن هو من خيار المسلمين، ولا يبلغ أحدهم مده ولا نصيفه؟! فمن سب أحدا من الصحابة، فإنه لم يسبه إلا لغيظ في قلبه منه، والغيظ به من أمارة الكفر، والكافر يقتل عند الردة، فما أحق سابهم بالقتل إلا أن يتوب! قال تعالى: ليغيظ بهم الكفار ، والحديث عام في جميع الصحابة، ليس فيه ذكر أحد منهم خاصة، فيشمل الأصحاب كلهم أجمعين، سواء كانوا من المهاجرين، أو الأنصار، ومن السابقين الكبار، أو المتأخرين الصغار.

وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الله الله» بالنصب بتقدير: اتقوا الله، وأذكركم الله «في أصحابي»؛ أي: في حقهم وشأنهم [ ص: 488 ] وأمرهم وحالهم، لا تذكروهم إلا بخير. أو أنشدكم الله في حقهم لا تتخذوهم غرضا من بعدي ترمونهم بسهام سبابكم. فيه النهي عن ذلك. وقد خالف هذا النهي قوم روافض ونواصب؛ فإن الأولى سبت الصحابة، والثانية سبت أهل البيت، وهم من الصحابة، فما أصبرهم على النار!! فمن أحبهم، فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم، فببغضي أبغضهم يعني: محبتهم مستلزمة لمحبتي، وبغضهم مستلزم لبغضي. فجعل حبهم حبه، وبغضهم بغضه في هذا الباب. وهذا يدل على أن باغضهم باغض النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أن باغض النبي -صلى الله عليه وسلم- كافر مرتد خارج عن دائرة الإسلام، فباغضهم أيضا كذلك، وإذا كان كذلك، وجب قتله ردة، أعاذنا الله من ذلك.

قال في «الترجمة»: قيل: علامة صحة المحبة وأمارة الوداد: أن يسري الحب من المحبوب إلى متعلقيه، ويتجاوز منه إليهم. فعلامة محبة الله -عز وجل-: محبة الرسول، وأمارة محبته -صلى الله عليه وسلم-: محبة آله وأصحابه.

ومن آذاهم، فقد آذاني، ومن آذاني، فقد آذى الله، ومن آذى الله، فيوشك أن يأخذه ويعذبه عذابا أليما رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وقد تقدم أن الغرابة من أقسام الصحة.

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي، فقولوا: لعنة الله على شركم رواه الترمذي .

قال في «اللمعات»: أي: لعنة الله عليكم بناء على شركم، أو هو احتياط باللعن على فعله دون ذاته ورعاية للإنصاف، وإن كان في الحقيقة راجعا إلى الفاعل. انتهى. ومثله في «الترجمة».

[ ص: 489 ] وأقول: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اللعنة في حق كل أحد من المسلمين، بل على كل شيء من الأشياء، وجوزها في حق ساب الصحابة، فذلك غاية في تقبيح السابين، ونهاية في تشنيعهم، والنص يدل على أن السب شيء يوجب اللعن لصاحبه. وإذا كان الحال هكذا، فما بال القوم صار السب عبادة لهم، وصاروا بسببه مستحقين للعنة الله؟ قاتل الله الروافض، وأباد النواصب، وقطع دابر الخوارج، كيف اجترأوا على سب خيار هذه الأمة وسلفها، وأئمتها وقادتها، وسادتها، وحملة علومها، ونقلة ملتها، في مخالفة هذا النهي المفيد للتحريم والتكبير، وخالفوا الله ورسوله في مرادهما! وإنما دعاهم إلى هذه الفاحشة الشنعاء: خوضهم في مشاجرات الصحابة، وسعيهم في ميدان الآراء بالقضاء عليهم في هذه الأمور، واشتغالهم بحكايات الحروب والفتن الواقعة فيهم، وتركهم التدبر والتفكر في آيات الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبعدهم عن مدارك الشرع، وقنوعهم على قصص كتب السير والتواريخ مع اشتمالها على كل رطب ويابس، وصدق وكذب، وإفراط وتفريط، وقول سقيم وصحيح، وكون مؤلفيها من كل فرقة ومذهب. فجاء كل مؤرخ بما كان اعتقاده، وكل إناء يترشح بما فيه. وجاء بعدهم أقوام جاهلون، سفهاء الأحلام، فنظروا فيها، واعتقدوا أن ما هو مسطور فيها هو الوحي من السماء، فساءت عقيدتهم في سلف هذه الأمة، وصلحائها، وهاديها، ونعوذ بالله من ذلك.

والحق في هذه المسألة: أن الإمساك عن الكلام فيها أولى، وسد هذا الباب -الذي لا يستفاد من فتحه إلا ما لم يتعبد الله به عباده- أسلم، وكلام الطوائف ومقالات الناس في ذلك معروفة ومشهورة، وكل حزب بما لديهم فرحون. والحق -الحقيق بالاتباع- ما بين المقصر والغالي، والصواب البحت في المتوسط بين جانبي الإفراط والتفريط.

[ ص: 490 ] والحديث الثابت في «الصحيح»: أن عمارا تقتله الفئة الباغية، قد دل أكمل دلالة على المراد، وقد كان بايع عليا من بايع أبا بكر وعمر، وشذ عن بيعته من شذ بلا حجة شرعية، وطلبوا أن يمكنهم من قتلة عثمان، فقال: إن الحكم فيهم إلى الإمام، وهو إذ ذاك الإمام. وقد ثبت في «الصحيح»: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للحسن: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين». وبالجملة: فلا يأتي التطويل في مثل هذا بفائدة، وقد قدموا على ما قدموا، ولم يكلفنا الله بشيء من هذا، بل أرشدنا إلى ما قصه علينا في كتابه العزيز بقوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ، فرحم الله امرأ قال خيرا وصمت.

التالي السابق


الخدمات العلمية