بيان بعض
الأسباب التي دفعت العلماء إلى تقليد المذاهب
ولا أقول: إنهم كلهم ضلال ومبتدعة، فإن منهم من كان على هدى مستقيم. ومنهم من تفطن للحق، ولكن اتقى تقاة، وعاقه عن إظهاره حجاب الرسم أو الطبع أو القوم. ومنهم من نسب، أو نسبوه إلى مذهب من هذه المذاهب، فصبر عليه مصلحة ووقاية عن الآفات، ولم يكن في الحقيقة من أرباب التقليد، ولا سيما أوائل أهل هذه المذاهب الأربعة؛ فإنهم لم يقلدوا أحدا من المجتهدين إلا تسمية فقط، وكانوا يتحرون الحق في كل باب من أبواب الدين، ويفتون فيما بان لهم من الصواب، ومتابعة السنة والكتاب، غير مبالين بأحد من المخالفين. ومنهم من يقول في العلانية: إنه حنفي، أو شافعي، أو غيرهما. ومنهم من تحول من مذهب إلى مذهب، وانتقل من مشرب إلى مشرب؛ لما رأى أن القضاء والإفتاء والتدريس لا يحصل إلا بأن يكون في المذهب الفلاني. وهذا دليل واضح أن تقليد المذهب الخاص، والمشرب المخصوص لم يكن عنده شيئا، [و] إلا لم يتحول مما نسب إليه قديما إلى ما نسب إليه حديثا؛ لأن التلاعب بالدين حرام، إلى غير ذلك من الوجوه الصادقة، والأسباب الباعثة على اختيار التقليد، والانتماء إلى أحد من المذاهب المعروفة، أو الحاملة على تركه
[ ص: 592 ] في السر والباطن، وعدم الإنكار منه في الظاهر والعلانية؛ لمصلحة عارضة، أو لفتنة أراد الحفظ عنها، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.