توحيد الرسل
وأما
توحيد الرسل، فهو إثبات صفات الكمال له، وإثبات كونه فاعلا بمشيئته، وقدرته، واختياره، وأن له فعلا حقيقة، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد، ويخاف، ويرجى، ويتوكل عليه، فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل.
وليس لخلقه من دونه وكيل، ولا ولي، ولا شفيع، ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه، وفي تفريج كرباتهم، وإجابة دعواتهم.
نعم؛ بينه وبينهم واسطة في تبليغ أمره، ونهيه، وأخباره.
فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه، وما يبغضه ويسخطه، ولا حقائق أسمائه
[ ص: 99 ] وصفاته، ولا تفصيل ما يجب له ويمتنع عليه ويوصف به إلا من جهة هذه الواسطة.
فجاء هؤلاء الملاحدة، فعكسوا الأمر، وقلبوا الحقائق، فنفوا كون الرسل وسائط في ذلك، وقالوا: يكفي توسط العقل، ونفوا حقائق أسمائه وصفاته.
ويسمون هذا: «التوحيد»، ويقولون: نحن ننزه الله عن الأعراض، والأبعاض، والحدود، والجهات، وحلول الحوادث فيه.
فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ، فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق، ومن العيوب، والنقائص، والحاجة.
فلا يشك أنهم يمجدونه، ويعظمونه، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ، فيرى تحتها إلحاد، أو تكذيب الرسل، وتعطيل الرب عما يستحقه من كماله.
فتنزيههم عن الأعراض هو جحد صفاته؛ كسمعه وبصرها وحياته، وعلمه، وكلامه، وإرادته.
فإن هذه الأعراض عندهم لا تقوم إلا بجسم، فلو كان متصفا بها، لكان جسما، وكانت أعراضا له، وهو منزه عن الأعراض.
فأما عند أهل الحق: فهذه التي سموها أعراضا هي الغاية في الحكمة التي لأجلها يخلق، ويفعل، ويأمر، وينهى، ويثيب، ويعاقب، وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره، ونهيه، وفعله، فيسمونها أعراضا، وعلة، ثم ينزهونه عنها.
وأما الأبعاض، فمرادهم بتنزيهه عنها: أنه ليس له وجه، ولا يدان، ولا يمسك السماوات على إصبع، والأرض على إصبع، والشجر على إصبع، والملك على إصبع.
[ ص: 100 ] فإن ذلك كله عندهم أبعاض، والله منزه عن الأبعاض.
وأما الحدود، والجهات: فمرادهم بتنزيهه عنها: أنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله محمد إليه؛ إذ لو كان كذلك، لزم إثبات الحدود، والجهات.