لفظ: «الجسم» لا يطلق على الله تعالى
واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا، فيكون له الإثبات، ولا نفيا، فيكون له النفي.
فمن أطلقه نفيا وإثباتا، سئل عما أراد به.
فإن قال: أردت بالجسم: معناه في لغة العرب، وهو البدن الكثيف الذي
[ ص: 102 ] لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهواء جسم لغة، ولا للنار، ولا للماء.
هذه اللغة وكتبها بين أظهرنا.
فهذا المعنى منفي من الله سبحانه عقلا، وسمعا.
وإن أردتم به المركب من المادة، والصورة، أو المركب من الجواهر الفردة، فهذا منفي عن الله تعالى قطعا، والصواب نفيه من الممكنات أيضا، فليس الجسم المخلوق مركبا من هذه.
وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار، ويتكلم، ويكلم، ويسمع، ويبصر، ويرضى، ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم الموصوف بها جسما.
كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم: نواصب.
ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا.
ولا نرد ما أخبر به الصادق المصدوق من الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله لتسمية أعداء الحديث متبعيها حشوية.
ولا نجحد صفات خالقنا من علوه على خلقه، واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مشبها.
فإن كان تجسيما ثبوت استوائه على عرشه إني إذا لمجسم وإن كان تشبيها ثبوت صفاته
فمن ذلك التشبيه لا أتلعثم وإن كان تنزيها جحود استوائه
وأوصافه أو كونه يتكلم فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا
بتوفيقه والله أعلى وأعلم
ورحمة الله تعالى على الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله المشهور:
يا راكبا قف بالمحب على منى واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
[ ص: 103 ] وكأن هذا كله مأخوذ من قول الشاعر الأول:
وعيرني الواشون أني أحبها وذلك ذنب لست منه أتوب
ومن هذا الوادي قول مجنون بني عامر لما ذهب به أبوه إلى بيت الله الحرام، وأراد أن يدعو عند الملتزم بزوال حب ليلى، فالتزم بالملتزم، وقال:
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وإن أردتم بالجسم: ما يشار إليه إشارة حسية، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى إليه بإصبعه رافعة لها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهدا له، لا للقبلة.
وإن أردتم بالجسم: ما يقال له: «أين»، فقد سأل أعلم الخلق به عنه بـ: «أين» منبها على علوه على عرشه، وسمع السؤال بـ: «أين»، وأجاب منه.
ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون من الجسم، وأنه ليس بجسم.
وإن أردتم بالجسم: ما يلحقه: «من»، و«إلى»، فقد نزل
جبريل -عليه السلام- من عنده تعالى، وعرج برسوله صلى الله عليه وسلم إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده عيسى بن مريم المسيح رفع إليه.
وإن أردتم بالجسم: ما يتميز منه أمر غير أمر، فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منعوت بنعوت الجلال والجمال جميعها من السمع والبصر، والعلم، والقدرة، والحياة، والإرادة.
وهذه صفات متميزة متغايرة.
ومن قال: إنها صفة واحدة، فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء.
وقد قال أعلم الخلق به:
nindex.php?page=hadith&LINKID=665785«أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك».
والمستعاذ به غير المستعاذ منه.
[ ص: 104 ]
وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم به منه، فباعتبارين مختلفين؛ فإن الصفة المستعاذ بها، والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد، ورب واحد.
والمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه.
وإن أردتم بالجسم: ما له وجه، ويدان، وسمع، وبصر، فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى، وبيديه، وبسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه المقدسة، أو أطلقها رسوله صلى الله عليه وسلم عليه.
وإن أردتم بالجسم: ما يكون فوق غيره، ومستويا على غيره، فهو سبحانه فوق عباده، مستو على عرشه.
وكذلك إن أردتم بالتشبيه، والتركيب: هذه المعاني التي دل عليها الوحي، والعقل، فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ، والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي.
أما الخطأ اللفظي، فتسميتكم الموصوف بذلك: جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره، وتسميتكم هذه الصفات: تجسيما، وتركيبا، وتشبيها.
فكذبتم على القرآن، وعلى الرسول، وعلى اللغة، ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدأت، وإليكم تعود.
وأما خطؤكم في المعنى، فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب، فنفيتم المعنى الحق، وسميتموه بالاسم المنكر.
وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أنه في العسل شفاء، ولم يره، فسأل منه، فقيل له: مائع، رقيق، أصفر، يشبه القذرة، يتقيؤها الزنابير.
ومن لم يعرف العسل ينفر منه بهذا التعريف، ومن عرفه وذاقه لم يزد هذا التعريف عنده إلا محبة له، ورغبة فيه.
[ ص: 105 ]
ولله در القائل:
تقول هذا جاء النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
وأشد ما جادل به أعداء الرسول من التنفير عنه: هو سوء التعبير عما جاء به، وضرب الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين، توصلت إلى قلوبهم، فنفرت عنه.
وأكثر العقول -كما عهدت- يقبل القول بعبارة، ويرده بعبارة أخرى.
وكذلك إذا قال الفرعوني: لو كان فوق السماوات رب، وعلى العرش إله، لكان مركبا، قيل له: لفظ: «المركب» في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله؛ كقوله تعالى:
في أي صورة ما شاء ركبك [الانفطار: 8].
وقولهم: ركبت الخشبة، والباب.
أو ما يركب من أخلاط، وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه متفرقة، فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحدا؛ كقولهم: ركبت الدواء من كذا، وكذا.
فإن أردتم بقولكم: لو كان فوق العرش، كان مركبا هذا التركيب المعهود، أو أنه كان متفرقا، فاجتمع، فهو كذب، وفرية، وبهت على الله، وعلى الشرع، وعلى العقل.
وإن أردتم أنه لو كان فوق العرش، لكان عاليا على خلقه، بائنا عن مخلوقاته، مستويا على عرشه، ليس فوقه شيء، فهذا المعنى حق.
فكأنك قلت: لو كان فوق العرش، لكان فوق العرش، فنفيت الشيء بنفسه بتغيير العبارة عنه، وقلبها إلى عبارة أخرى.
وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.
[ ص: 106 ]
وإن أردت بقولك: كان مركبا: أنه يتميز منه شيء عن شيء، فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها عن بعض، فهل كان عندك هذا تركيبا؟