الكلام على الجهة
وكذلك تنزيهه عن الجهة:
إن أردتم: أنه منزه من جهة وجودية تحيط به، وتحويه، وتحصره إحاطة الظرف المظروف، فنعم، هو أعظم من ذلك، وأكبر، وأعلى.
ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى.
وإن أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، فنفيكم لهذا المعنى باطل، وتسميته «جهة» اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل، والنقل، والفطرة.
فسميتم ما فوق العالم: جهة، وقلتم: منزه عن الجهات.
وسميتم العرش: حيزا، وقلتم: ليس متحيزا.
وسميتم الصفات: أعراضا، وقلتم: الرب منزه عن قيام الأعراض به.
[ ص: 108 ]
وسميتم حكمه: غرضا، وقلتم: منزه عن الأغراض.
وسميتم كلامه بمشيئته، ونزوله إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، وإرادته المقارنة لمرادها، وإدراكه المقارن لوجود المدرك، وغضبه إذا عصي، ورضاه إذا أطيع، وفرحه إذا تاب إليه العباد، ويداه لموسى حين أتى الشجرة، ونداه للأبوين حين أكلا من الشجرة، ونداه لعباده يوم القيامة، ومحبته لمن كان يبغضه حال كفره، ثم صار يحبه بعد إيمانه، وربوبيته التي شملت كل مخلوق، وكل يوم هو في شأن: حوادث، وقلتم: هو منزه عن حلول الحوادث.
وحقيقة هذا التنزيه أنه منزه عن الوجود، ومن الماهية، ومن الربوبية، ومن الملك، وعن كونه فعالا لما يريد، بل عن الحياة القيومية.
فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم: ليس له جسم، ولا جوهر، ولا مركب، ولا تقوم به الأعراض، ولا يوصف بالأبعاض، ولا يفعل بالأغراض، ولا تحله الحوادث، ولا تحيط به الجهات، ولا يقال في حقه: أين؟ وليس بمتحيز، كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكليمه لخلقه، ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته نحو هذه الألفاظ؟
ثم توسلوا إلى نفيها بواسطتها، وكفروا، وضللوا من أثبتها، واستحلوا ما لم يستحلوه من أعداء الله: اليهود والنصارى.
فالله الموعد، وإليه التحاكم، وبين يديه التخاصم.
نحن وإياهم نموت ولا أفلح يوم الحساب من ندما
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء: 227].
[ ص: 109 ]
هذا آخر كلام «سيف السنة»، وما أحقه بأن يكتب بماء ذهب الإيمان على صفحات قلوب الإنسان.
وإذا وزنته مع أدلة الكتاب العزيز، والسنة المطهرة الكثيرة الطيبة التي لا يسع لذكرها هذا المقام، وجدته في ميزان العدل والإنصاف ثقيلا.
ومتى تجنبت في الإيمان به، والتعويل عليه خفايا العصبية، ورزايا الاعتساف، صرت موحدا في الدنيا، والآخرة، وكان الله لك ناصرا، ودليلا.
* * *