القسم السادس: ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف.
وهذان القسمان كما يكونان شبهة للمجتهد، يكونان أيضا شبهة للمقلد، بتنزيل شك إمامه بمنزلة شكه، وتنزيل الرواية الضعيفة عن إمامه بمنزلة الرواية الضعيفة في الحديث، بالنسبة إلى المجتهد.
وقد تقدم الوجه لكل واحد من هذه الصور التي فسرنا بها المشتبهات.
ومن جملة ما يكون بمنزلة الحديث الضعيف باعتبار القياس إذا كان بمسلك من المسالك التي لم يقل بها إلا بعض أهل العلم، وكثر النزاع فيها تصحيحا، وإبطالا، واستدلالا، وردا.
فإنه إذا اقتضى مثل هذا القياس تحريم شيء - مثلا -، وكان المجتهد مترددا في وجوب العمل بهذا المسلك، فلا ريب أن ذلك التحريم الثابت به من جملة الشبهات، وكذلك التحليل الثابت به - على التفصيل الذي قدمنا-.
فإذا كان الاحتياط في الترك، فهو الورع، وإن كان الاحتياط في الفعل؛ فكذلك، ومثل ذلك الأحكام المستفادة من تعميم بعض الصيغ التي وقع النزاع في عمومها، كالمصدر المضاف.
وبالجملة: فالعالم المحقق العارف بعلوم الاجتهاد لا يخفى عليه الفرق بين الأحكام المأخوذة من المدارك القوية، والأحكام المأخوذة من المدارك
[ ص: 526 ] الضعيفة، فهذا الذي يلحق بالقسم السادس، وكانت الأمور المشتبهة منحصرة في هذه الأقسام التي ذكرناها.
ومن أمعن النظر، وجد ما عداه لا يخرج عن كونه، إما من الحلال البين، أو الحرام البين.
فاحرص على هذا التحقيق؛ فإنه بالقبول حقيق، وما أظنك تجده في غير هذا الموضع، واضمم إليه ما قدمنا في الضابط، في كيفية الورع والوقوف عند الشبهة، إذا كان أحد الدليلين يدل على التحريم، أو الكراهة، والآخر على الجواز إلى آخر ما تقدم هناك.
فإنك إذا ضممته إلى هذه الأقسام الستة المذكورة هاهنا، وتذكرت ما سبق من الاستدلال على كل قسم منها، أنه من المشتبه، لم يبق معك ريب في معرفة الفرق بين الحلال والحرام، والمشتبه.
البحث الثالث: في الكلام على الصور، التي ذكرها السائل - دامت فوائده -.
قال: هل
المراد بالحلال والحرام والمشتبه فيما يتعلق بأفعال الآدميين، وسائر ما يباشرونه، من المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به من المعاملات؟
أقول: نعم، الشبهة تكون في جميع هذه الأمور التي ذكرها، وقد تقدم التمثيل للمأكولات، والمشروبات بلحم الخيل، والضبع، والنبيذ، والمثلث.
ومثاله في المنكوحات للمجتهد، إذا تعارض عليه الأدلة في تحريم نكاح الرضيعة، التي أخبرت بوقوع الرضاع بينها وبين من أراد نكاحها مرضعها نفسها، فلم يبرح لديه أخذ الدليلين - أعني: دليل قبول قولهما، ووجوب العمل؛ به لقوله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650086 "كيف وقد قيل؟"، ودليل عدم العمل تقرير شهادتها؛ لكونها لتقرير فعلها-.
وكذلك المقلد، إذا اختلف قول من يقلده في العمل بذلك، وعدم العمل
[ ص: 527 ] فلا شك أن الإقدام على النكاح هاهنا، إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف عند الشبهات.
ومثله في الإنشاءات: العقود الفاسدة، إذا تعارض على المجتهد أدلة جواز الدخول فيها، وأدلة عدم الجواز. وكذلك المقلد، إذا اختلف قول من يقلده.
فلا شك أن الدخول في العقود الفاسدة - من هذه الحيثية - إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف.
وكذلك المعاملات؛ كالمعاملة ببيع النساء، إذا تعارضت الأدلة في جوازه على المجتهد، واختلفت على المقلد أقوال من يقلده، فالأمر كذلك.
وقال: وما المراد باتقاء الشبهة في ذلك، وما تمثيله؟
فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام بالقرب من بلده، فترك جميع المأكولات من اللحم والحب، وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة، وقد مقت عليه كثير من علماء عصره، ذكر ابن القيم معناه في "الكلم الطيب". انتهى.
أقول: لا شك أن ما كان مظنة للاختلاط بمثل تلك الأمور المنهوبة، واجتنابه من اجتناب الشبه الذي هو شأن أهل الورع، والإقدام عليه من الإقدام على الأمور المشتبهة، ولكن مع تجويز الاختلاط.
وليس مثل ذلك من الغلو في الدين، ولا مما يكون ممقوتا على فاعله.
لكن عدول هذا المتورع إلى أكل العشب لا شك أنه من الغلو في الدين، والتضييق على النفس؛ لأنه إذا كان في مدينة من المدائن، أو قرية من القرى، فلا ريب أن الحلال موجود غير معدوم، يمكن استخراجه بإحفاء السؤال والمبالغة في البحث.
ولا بد أن يوجد من هو بمحل من العدالة، فيكون قوله مقبولا إذا قال: ليس هذا الطعام الذي عندي، أو الذي عند فلان، من المال المنهوب.
ثم لو فرضنا أنه لم يبق في ذلك المحل من يعمل بقوله، وكان المال
[ ص: 528 ] المنهوب قد دخل منه على كل أحد نصيب، فلا يعدم الإنسان في غير ذلك المحل ما يسد رمقه، مما لم يختلط بالطعام المنهوب، كما كان يفعل
النووي - رحمه الله -؛ فإنه كان يتقوت مما يرسل به إليه والده من بلاده، التي هي وطنه ومنشؤه.
نعم، إذا لم يكن لهذا المتورع قدرة على استخراج ما هو خالص عن شائبة الحرام من أهل بلده، ولا يتمكن من استخراجه من غير بلاده، واختلط المعروف بالإنكار. ولم يبق له إلى الحلال ألطف سبيل، وكان ذلك الاشتباه والاختلاط واقعا في نفس الأمر على مقتضى الشرع، ولم يكن ناشئا عن الوسوسة التي هي من مقدمات الجنون، كما نشاهده في وسوسة من ابتلي بالشك في الطهارة، فلا بأس بعدوله إلى أكل العشب، بشرط عدم تجويز الضرر والاقتدار على سد الرمق منه. ولا ريب أن هذا هو ورع الورع، وزهد الزهد.
وأما مع تجويز الضرر، أو مع عدم الاقتدار على سد الرمق منه، فقد أباح له الشرع أن يتناول من المال الحرام البحث ما يسد رمقه. فكيف بما لم يكن من الحرام البحت، بل كان حلالا مختلطا بالحرام؟
قال: ومثلا: لو علم أن له في صنعاء محرما أو رضيعة، فيقول: لا يجوز له الإقدام على تزويج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه. انتهى.
أقول: إذا كانت الرضيعة المذكورة في تلك البلدة بيقين، وكذلك المحرم، فإن كان من فيها من النساء منحصرات بحيث يضطرب الظن ويختلج الشك في كون المرأة التي أراد نكاحها قد تكون هي المحرم أو الرضيعة، فالتجنب النكاح نسوة ذلك المحل ليس من انتقاء الشبهة، بل من اتقاء الحرام المجوز، فلا يجوز الإقدام.
وإن كان في ذلك المحل من النساء غير منحصرات، بحيث لا يحصل للناكح ظن أن المنكوحة هي المحرم أو الرضيعة، فالاجتناب للنكاح من ذلك المحل هو الورع، وهو نفس اتقاء الشبهة.
[ ص: 529 ] لأن الحلال البين: هو نكاح من عدا الرضيعة، أو المحرم من نساء البلد.
والحرام البين: هو الرضيعة، أو المحرم.
فبمجموع من في البلد من الرضيعة وغيرها، والمحرم وغيرها، واسطة بين الحلال والحرام.
وما كان واسطة، فهو المشتبه الذي يقف المؤمنون عنده. فهذا المثال هو من جملتها، يصلح للتمثيل به لما نحن بصدده.
قال: أو يكون تمثيل اتقاء الشبهة بأنه لا يقدم على الفعل المباح أو المندوب، خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور، كلو ترك التزوج بزائد على الواحدة خوفا من الميل إلى إحدى الضرتين؛ لأنه لا يأمن تعدي الحمى الوارد في متن الحديث:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650050 "ألا وإن حمى الله محارمه".
فنقول: على هذا ينبغي عدم التزوج بزيادة على الواحدة، لا سيما مع ورود الدليل القرآني بقوله:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء [النساء: 129] الآية. انتهى.
أقول:
نكاح ما فوق الواحدة من النساء إلى حد الأربع، هو من الحلال البين بنص القرآن الكريم. وتجويز عدم العدل في الجملة، حاصل لكل فرد من أفراد العباد، ولهذا يقول:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء .
ولكن المحرم: هو أن يميل كل الميل، وهذا لا يجوزه الإنسان من نفسه قبل الوقوع فيه؛ لأن أسباب الميل متوقفة على الجمع بين الزوجين فصاعدة، إذ لو كان مجرد إمكان الميل شبهة من الشبهات التي يتقيها أهل الإيمان، لكان نكاح الواحدة أيضا ينبغي اجتنابه؛ لإمكان ألا يقوم بما يجب لها من حسن العشرة، وكذلك إمكان الافتتان بما يحصل له منها من الأولاد.
ولكان أيضا ملك المال الحلال من هذا القبيل؛ لإمكان ألا يقوم بما يجب عليه فيه من الزكاة ونحوها. ونحو ذلك من الصور، التي لا خلاف في كونها من الحلال الذي لا شبهة فيه.
[ ص: 530 ] نعم، إذا كان الرجل - مثلا - قد جمع بين الضرائر، وعرف من نفسه أنه يميل كل الميل، ثم فارقهن جميعا، أو بقيت واحدة تحته، ثم أراد بعد ذلك أن يجمع بين اثنتين فصاعدا، فلا ريب أن ذلك من المباح أو المندوب الذي يكون ذريعة إلى الحرام، فهو مندرج تحت القسم الثالث من الأقسام الستة، التي أسلفنا ذكرها. وهذا على فرض أن الواحدة تعفه، وتحصن فرجه.
فإن كان لا يعفه إلا أكثر من واحدة، مع تجويزه للميل الذي قد عرفه من نفسه، فعليه أن يفعل ما هو أقل مفسدة لديه في غالب ظنه، باعتبار الشرع.
وبعد هذا، فلا أحب لمن كان لا يحتاج إلى زيادة على الواحدة أن يضم إليها أخرى، إلا إذا كان واثقا من نفسه بعدم الميل، وعدم الاشتغال عما هو أولى به من أفعال الخير، وعدم طموح نفسه إلى التكثر من الاكتساب، واستغراق الأوقات فيه، أو الاحتياج إلى الناس.
فلا ريب أن اتساع دائرة الأهل والولد، وكثرة العائلة، من أعظم أسباب إجهاد النفس في طلب الدنيا، والاحتياج إلى ما في يد أهلها، ولا سيما في هذه الأزمنة التي هي مقدمات القيامة، بل قد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يفيد أولوية التعزب والاعتزال في آخر الزمان.
وقد جمع الإمام
محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا نفيسا، ذكر فيه نحو خمسين دليلا.
ولابد من تقييد هذه الأولوية بالأمن من الفتنة، التي هي أشد من فتنة التعزب؛ كالوقوع في الحرام.
قال: أو يكون اتقاء الشبهة عاما في الأفعال، والاعتقادات، والعبادات؛ لعدم تفسير المتشابه مثلا، ورده إلى المحكم، خوفا من الدخول في شبهة من فسر القرآن برأيه، الوارد النهي عنه، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها، مما يتعلق بأفعال المكلفين من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق، أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات. انتهى.