وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيقته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل.
وأجاب:
أما أولا: فإن الشارع، والسلف الصالح نهوا عن الابتداع، وأمروا بالاتباع.
وصح عن السلف أنهم نهوا عن الكلام، وعدوه ذريعة للشك والارتياب.
وأما الفروع، فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا لمن ترك النص الصحيح، وقدم عليه القياس.
وأما من اتبع النص، وقام عليه، فلا يحفظ لأحد من أئمة السلف إنكار ذلك؛ لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي، وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم.
فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك، بخلاف علم الكلام.
وأما ثانيا: فإن الدين كمل؛ لقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3].
فإذا كان أكمله، وأتمه، وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقده من تلقى عنهم، واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول، والرجوع إلى قضاياها، وجعلها أصلا؟
[ ص: 140 ]
والنصوص الصحيحة الصريحة يعترض عليها، فتارة يهمل بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها.
وإذا كان الدين قد كمل، فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا في المعنى.
مثل زيادة إصبع في اليد، فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك.
وقد توسط بعض المتكلمين فقال: لا يكفي التقليد، بل لابد من دليل ينشرح به الصدر، ويحصل به الطمأنينة العلمية.
ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية، بل يكتفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه، انتهى.
والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كاف في هذا القدر.
وقال بعضهم: المطلوب من كل أحد التصديق الجزمي الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى، والإيمان برسله، وبما جاؤوا به كيفما يحصل، وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل.
قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى، ومن قبلهم من أئمة السلف.
واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة، وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان.
فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام من غير التزام بتعليم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم وجود دليل ما بسبب وضوحه له.
فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبينا صلى الله عليه وسلم سيبعث، وينتصر على من خالفه.
فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم، بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في كل شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة، والزكاة، وغيرها.
[ ص: 141 ]
وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم، وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم، فلا يزالون يزدادون إيمانا، ويقينا.