باب في الحكمين
الأصل في الحكمين بين الزوجين قول الله عز وجل:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [النساء: 35].
فإذا
اختلفا الزوجان وخرجا إلى ما لا يحل من المشاتمة والوثوب، كان على السلطان أن يبعث حكمين ينظران في أمرهما، وإن لم يرتفعا يطلبان ذلك منه، ولا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المأثم وفساد الدين، فيبعث رجلا من أهله ورجلا من أهلها، عدلين، فقيهين بما يراد من الأمر الذي ينظران فيه، فإن لم يكن في أهلهما من يصلح لذلك فمن جيرتهما، فإن لم يكن فمن غيرهم، فإن كان في أهلهم رجل يصلح لذلك أضيف إليه آخر من جيرتهما، فإن لم يكن فمن غيرهم، فإن كان في أحد الجانبين رجلان يصلحان لذلك، حكم أحدهما ونظر في الآخر من الجيرة أو غيرهم، ولا يكونان من أحد الجانبين.
وإنما خص بذلك الأهل؛ لأن كل واحد منهما يخلص إليه من باطن
[ ص: 2590 ] أمرهما ما لا يخلص إلى الأجنبيين، فكان ذلك أقرب لإجراء الأمر على الصحة، وللمظلوم على الظالم، ثم الجار أقرب عند عدم الأهل، ولم يجعلا -إذا كانا من الأهلين- من جهة واحدة، لما يلحق القريب عند الشنآن من الحمية والغضب لمن هو من ناحيته، وإن كان بين الزوجين قرابة جاز أن يحكم السلطان من هو منهما بمنزلة، مثل عميهما أو خاليهما، أو عم وخال، ولو جعل ذلك إلى واحد منهما بمنزلة عم أو خال جاز على مغمز فيه.
وإن جهل السلطان وجعل ذلك إلى من لا فقه له ولا علم عنده بوجه الحكم فاسترشد أهل العلم بعد الكشف، مضى حكمهما، فإن
حكما بعلمهما سئلا عن صفة ما اطلعا عليه، فإن تبين أنهما أصابا الحق مضى الحكم، وإلا رد، وإن جعل ذلك إلى أجنبيين مع وجود الأهل، فإنه يشبه أن يقال: ينقض الحكم لمخالفة النص، ولأن فيه ضربا من التفريط، بمنزلة ما لو قضى القاضي بقضية، ولم يبالغ في الكشف، ولم يسأل من يرى أن عنده علما، ويشبه أن يقال: الحكم ماض، بمنزلة لو تحاكما إليه فأجرى الحكم بعد أن علم ما يدعي كل واحد منهما.
وكذلك
لو حكم السلطان رجلا أجنبيا; لأنه إنما جعل رجلان إذا كانا من الأهل; لأن كل واحد منهما يستبطن علم من هو من قبله، فإذا خرجا عن أن يكونا من الأهل أجزأ واحد وأجرى أمره على الأصل في الأحكام، أنه يجزئ
[ ص: 2591 ] في القضية رجل واحد، وهو في هذا الوجه بخلاف الحكمين في الصيد لوجهين:
أحدهما: أن الحاكم بين الزوجين بإقامة من القاضي، وجزاء الصيد المطلوب هو الذي يقيم من يحكم له بانفراده، فأمر أن يجعله إلى رجلين; لأن ذلك أنفى للتهمة وأبعد من الميل.
والثاني: أن الله -عز وجل- قد فرق في مثل ذلك في حكم الآدميين في عدة الطلاق والموت، فجعل العدة في الطلاق ثلاثة أشهر عند عدم الحيض، وهو أمد ظهور الحمل لما كان هناك من يقوم بالنسب، وفي الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وهي مدة حركته في البطن لما كان من يقوم بالنسب معدوما، وفارق الحكم في الصيد الكفارة عن الظهار، وقتل النفس في أنها لا تحتاج إلى حكم; لأن الأمر في الكفارة أوسع، يجزئ فيه الصغير والكبير والجيد والدنيء، والسالم والمعيب عيبا خفيفا، والمطالبة في جزاء الصيد بالمثل.
والثاني أن الله -عز وجل- قد فرق بين حكمهما، فجعل هذا إلى أمانته، والآخر إلى غيره، وإنما المقال في الصيد لم كان بحكمين، ولم يكن بواحد؟ والاعتراض بالظهار والقتل إنما يدخل في أنه لم كان لأمانته؟ بخلاف غيره ليس أنه بحكم والآخر بحكمين.
[ ص: 2592 ]