صفحة جزء
باب في سلم الحديد والكتان والصوف في جنسه والثياب بعضها ببعض

سلم الموزون من الحديد والصوف والكتان على ثلاثة أوجه: فإما أن يكونا غير مصنوعين أو مصنوعين، أو أحدهما مصنوعا والآخر غير مصنوع، فإن كانا غير مصنوعين، لم يسلم أحدهما في الآخر وإن تباينا في الجودة.

وقال ابن القاسم: وإن كان أحد الحديدين يعمل منه السيوف، والآخر لا يعمل ذلك منه، أو كان أحد الصوفين يعمل منه السيجان العراقية والأسوانية، والآخر لا يعمل منه ذلك أبدا، والكتان كذلك، وهذا حماية، لئلا يتذرع بما يتباين إلى ما يتقارب.

والقياس أن يجوز، وأصل المذهب أن كل ما يتباين اختلافه من الجنس الواحد، ويقصد من أحدهما خلاف ما يقصد من الآخر: أن يجوز سلم بعضها في بعض، وليس كون ذلك مما يكال أو يوزن علة في المنع.

والحيوان والثياب يكون أصلها واحدا، ويجوز سلم أحدهما في الآخر، إذا اختلفت منافعهما، وقد قيل: إن المنع; لأنه يمكن أن يعمل من الدنيء جيدا إذا بولغ في عمله.

وقد نص ابن القاسم على خلاف ذلك، ومنع من أن يسلم الصوف في الصوف، وإن كان لا يعمل من أحدهما ما يعمل من الآخر أبدا، فإذا صارا [ ص: 2926 ] مصنوعين، أو صنع أحدهما افترق الجواب.

فأما الحديد والنحاس وما يصح أن يعاد بعد الصنعة لهيئته فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:

فأجاز مالك وابن القاسم إذا كانا مصنوعين أن يسلم سيفا جيدا في اثنين دونه، قال: بمنزلة فرس في فرسين.

ومنع إن كان أحدهما مصنوعا والآخر غير مصنوع أن يسلم أحدهما في الآخر.

وأجازه في كتاب الثالث، وجعل الحكم فيه كالحكم في ثوب الكتان بالكتان، وقال: لا بأس بالثوب الكتان بالكتان نقدا، ولا بأس بالتور النحاس بالنحاس نقدا، ولا خير في الفلوس بالنحاس، إلا أن يتباين الفضل إذا كان عددا.

فرأى أن الصنعة نقلته إذا عمل تورا، فجاز من غير مراعاة لفضل، بخلاف الفلوس.

وحكى فضل عن يحيى أنه قال: لا بأس أن يسلف سيوفا في حديد لا يخرج منه السيوف.

قال: مثل قوله في ثوب كتان في كتان، قال: ووافقني عليه أبو إسحاق البرقي. [ ص: 2927 ]

ومنع ذلك سحنون فإن صنعا، وقال: وليس ضرب السيف صنعة تخرجه من الحديد; لأنه يعاد حديدا.

والأول أحسن، وليس هذا مما يفعله ذو عقل أن يعيد السيف حديدا، ولو فعله أحد عوقب; لأن ذلك من الفساد وإضاعة المال، وإن كان ذلك مبلغ عقله وتمييزه حجر عليه.

وقد تقدم ذكر سلم الكتان في الكتان، فإن غزلا جاز أن يسلم أحدهما في الآخر إذا اختلفا، فيسلم قليلا جيدا في كثير رديء; لأنه لما غزلا فات أن يعمل من أحدهما ما يعمل من الآخر، ولو عملا ثيابا جاز أن يسلم أحدهما في الآخر.

ويسلم ثوب كتان في كتان وفي غزل، وإن بعد الأجل، ولا بأس أن يسلم الكتان والغزل في ثوب كتان إذا قرب الأجل، ولم يكن بينهما ما يعمل منه ذلك الثوب، ولا يجوز إذا بعد وكان بينهما من الأجل ما يعمل منه مثل ذلك الثوب، إلا أن يكون ذلك الغزل مما لا يعمل منه مثل ذلك، فيجوز وإن بعد الأجل.

فإن كان الغزل أجود جاز، قل وزنه أو كثر; لأنها مبايعة، فإن كان وزنه أقل، كان فضل وزن الثوب وصنعته لمكان جودة الغزل، وإن كان مثل وزنه كانت صنعة الثوب لمكان جودة الغزل، وإن كان الغزل أدنى، لم يجز، إلا أن يكون أكثر وزنا، فإن كان مثل وزنه أو أدنى دخله سلف بزيادة، والزيادة فضل [ ص: 2928 ] جودة غزل الثاني وصنعته، وعلى هذا يجري الصوف في ثوب الصوف، والقطن في ثوب القطن.

واختلف في المصنوع يباع بجنسه من الكتان والقطن والصوف والجلد بالأحذية نقدا.

فأجاز ذلك مالك في الكتان جملة من غير أن يعتبر فيعلم مبلغ أحدهما من الآخر.

وقال محمد: كره مالك الصوف بالثوب الصوف يدا بيد، والجلد بعشرة أحذية وإن كان يدا بيد، وإن كان من غير جلده، قال: وجعله من المزابنة.

يريد: أن صاحب الأحذية يقول: لعلي أكون الذي أغبن، وآخذ الجلد فأعمل منه أكثر، ويقول الآخر: قد لا يخرج الجلد مثل تلك الأحذية التي آخذ، فأكون أنا الذي أغبن.

وقال أبو الفرج: لا يباع اللبن الحليب باللبن الحليب، لما فيهما من الزبد المجهول وجعله من المزابنة.

وقال ابن القاسم في منع بيع اللحم بالحيوان: إن ذلك لموضع الفضل والمزابنة.

والأصل في جميع ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 2929 ] المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلا، وبيع الكرم بالزبيب كيلا"، اجتمع عليه الموطأ والبخاري ومسلم.

وموضع المزابنة: أن بائع الرطب يقول: قد لا يصح فيه إذا يبس مثل التمر الذي آخذه، والآخر يقول: قد يكون في الرطب فضل فأكون أنا الذي أغبن، وهذا الوجه يستوي فيه الطعام والعروض، فنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على منع هذا الوجه، ونص في غيره على تحريم الربا، فالفساد يدخل في هذه المبايعة من وجهين: الربا والمزابنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية