صفحة جزء
باب في اختلاف الوصايا واختلاف أحكامها

الوصية عشرة فالأول : أن يكون قدرها الثلث ، ويجعلها في صنف لا يلحق الورثة بإخراجه منه ضرر .

والثاني : أن يعول على ثلثه ، ويجعله بحيث يجوز حسب الأول .

والثالث : أن يوصي بالثلث ، ويجعله فيما يضر بالورثة إخراجه كالذي يأخذ الحاضر ويترك الغائب ، أو يأخذ الناض ويجعل لهم الدين .

والرابع : أن يعاوض ورثته ويبايعهم فيأخذ المنافع والغلات ، ويترك لهم المرجع ، أو يترك لهم المنافع ، ويجعل لنفسه المرجع ، أو يأخذ حاضرا دون الثلث ، ويترك كثيرا غائبا .

والخامس : أن يقصد الضرر بورثته دون البر لنفسه ، وما لا ينفع في عاجل الدنيا ولا في آجل الآخرة .

والسادس : أن يجتمع في الوصية شيئان : العول على الثلث ، ويجعلها فيما يضر بهم ، أو يتعذر بيعه .

والسابع : أن يجتمع العول والمبايعة . [ ص: 3640 ]

والثامن : أن يجتمع العول والمبايعة ، ويجعلها فيما يضر بهم .

والتاسع : أن يجتمع في ذلك ما يريد به الضرر ، وما يريد به البر .

والعاشر : ألا يكون عول ، ويريد بر نفسه ، وضرر الورثة ، فإن كانت التركة صنفا عبيدا أو ديارا أو عروضا فوصى بشيء بعينه من ذلك وهو الثلث فأقل ، جاز وليس للورثة أن يقولوا له : الثلث شائعا وليس له أن يأخذ ذلك المعين لنفسه .

وكذلك إن كانت عبيدا ، أو متاعا فأراد أن يأخذ أحد المصنفين ، وهما في إنجاز البيع إن أريد سواء ، وليس لهم أن يقولوا : إنما يأخذ ثلث كل صنف .

وكذلك إن كانت التركة عينا فوصى بالدراهم دون الدنانير ، أو بالدنانير دون الدراهم ، وهو في القيمة الثلث فأقل أو كانت كلها دنانير ، وهي مختلفة السكك فوصى منها بما قيمته الثلث وهو أجود سكة ، وأدنى وزنا أو أوزن وأدنى سكة ، فترك فضل العدد لمكان جودة السكة ، أو ترك فضل الجودة لمكان كثرة العدد ، فذلك جائز ، وإن كره الورثة ، ولم ير ذلك من الربا بينه وبين الورثة ، وإن كانوا شركاء له بالموت .

وكذلك لو خلف عينا ، ودينا والدين دنانير ودراهم فأوصى بالدين ، جاز [ ص: 3641 ] إذا حمل الثلث عدده .

واختلف إذا كان في العدد أكثر من الثلث ، وفي القيمة الثلث فأقل ، فقيل : تجوز الوصية; لأن الدين كعرض فلو وصى له بعرض ، وله عين لجاز إذا حمل الثلث قيمته ، وقيل يجعل في الثلث العدد .

قال مالك : وليس له أن يوصي بالعين ويترك لهم الدين .

وأرى إذا كان الدين حالا على موسر حاضر غير ملد ، أو مؤجلا لا يتعذر بيعه وقيمته إن بيع الثلثان فأكثر أن تجوز الوصية ، وإن كره الورثة . كما قال : لو أوصى بالعين ، وجعل لهم عرضا وهو مما لا يتعذر بيعه . وكذلك إن كانت التركة ديارا ، أو حمامات ، أو حوانيت ، أو عبيدا ، أو متاعا ، فله أن يجعل ثلثه في أي ذلك أحب ، وإن لم يرض الورثة إلا أن يكون الذي ترك لهم مما يتأخر بيعه بالأمر البين ويعلم أن غرضهم فيما يصير إليهم من التركة البيع ليس الاقتناء .

والقسم الثاني : إن جعل الوصية بحيث يجوز له حسبما تقدم ، وعال على ثلثه ، مضت وصيته في الصنف الذي جعلها فيه ، ويكون المقال للورثة في الزائد على الثلث خاصة، فإن أجازوه وإلا كان لهم رد الزائد خاصة إذا كانت التركة دنانير ودراهم أو مكيلا أو موزونا ، وإن كان فيها ربا مما لا يجوز [ ص: 3642 ] بين الأجنبيين مثل أن يخلف مائة شعيرا ومائة قمحا فوصى بالشعير وهو الثلث ، فإنه يمضي ويصير إلى الورثة المائة القمح على الثلثين .

واختلف عن مالك إذا كانت التركة ديارا أو عبيدا أو متاعا ، فقال مرة : إن لم يجز الورثة ، قطعوا بالثلث شائعا . وقال أيضا : يحط ذلك الزائد من الموصى به خاصة ، وهو أحسن; لأن للميت أن يجعل ثلثه في تلك العين ، وإنما مقالهم في الزائد .

والقسم الثالث : إن وصى بالثلث فأقل ، وجعله مما يضر بالورثة فوصى بالحاضر ، وترك لهم الغائب ، كان الورثة بالخيار فإن لم يجيزوا كان للموصى له ثلث الحاضر ، وثلث الغائب .

واختلف إذا كان عينا وعقارا أو عينا وعبيدا ، وأوصى بالعين . فقال مالك : ليس له أن يأخذ العين ، ويبقيهم في العروض .

وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أوصى بعشرة دنانير ، ولم يخلف عينا غيرها ، وله عروض وشوار ورقيق ودواب ، قال : تدفع الدنانير في الوصية وإن كره الورثة ، قال : وسواء أوصى بعشرة بعينها ، أو قال : عشرة .

وقال ابن الماجشون في المجموعة : إذا كان ما سوى العشرة بعيد الغيبة ، أو بطيء [ ص: 3643 ] البيع ، خير الورثة بين أن يدفعوا الدنانير ، أو يقطعوا له بالثلث من الجميع .

وقال ابن القاسم في العتبية فيمن وصى بعشرة دنانير ، وليس له إلا مال غائب ، أو ديون على الناس فيريد الموصى له أن يتعجل العشرة ويقول الورثة : إذا تقاضينا أعطيناك قال : يخير الورثة بين أن يعجلوا له ذلك ، وبين أن يقطعوا له بالثلث ، فينظر قدوم الغائب ، أو يتقاضى لنفسه .

وقال في كتاب محمد : لا يخير هنا ، ويباع للوصية .

قال : ومن أوصى بعشرة دنانير لرجل ، وليس له إلا مائة دينار دينا فقبض من المائة عشرة أفيخير الورثة؟ قال : لا; لأنه على علم أن ماله دين ، وإنما أشركه في المائة بعشرة ، ولم يقل من أولها ، ولا من آخرها وقد أوصى بعشرها ، قال : ولو كان الميت قبض منها خمسة عشر قبل أن يموت ، أو كانت عنده خمسة عشر من غيرها ، خير الورثة بين دفع العشرة نقدا ، أو القطع بالثلث . [ ص: 3644 ]

القسم الرابع : فإن أوصى بالخدمة ، أو بالسكنى وترك لهم المرجع ، أو ترك لهم الخدمة مرة وأخذ المرجع والرقاب جميع مال الميت ، كانت مبايعة منه لهم; لأن الورثة يستحقون ثلثي الرقاب بتلا فقد أخذ ثلثي مالهم بتلا ، من الخدمة ، وأعطاهم ثلث الرقبة ، أو أعطاهم ثلث الخدمة ، وأخذ منهم ثلثي المرجع ، فإذا كان ذلك ، كان الورثة بالخيار بين أن يجيزوا وصيته ، أو يقطعوا لأهل الوصايا بالثلث بتلا; لأن مقال الورثة لم يكن لأنه عال على الثلث فيحط الزائد ، وإنما كان مقالهم لمكان ما حبس من الرقاب ، أو المنافع . وكذلك إذا كان أخذ حاضرا ، ولم يستوعب الثلث ، وترك لهم الغائب ، وهو أكثر من الثلثين ولم يجز الورثة ، خرجوا من الثلث شائعا; لأن مقال الورثة لم يكن للزائد فيقطع في عين الموصى به .

وروي عن أشهب أنه قال : يقطع في عينه . يريد لأنه إذا قطع في عينه صار له من الخدمة فيه أكثر مما يكون إذا قطع له من جميع التركة ، فكان ذلك من جميع التركة ، وكان ذلك أقرب لقصد الميت . [ ص: 3645 ]

القسم الخامس : إن قصد بالوصية ضرر الورثة من غير منفعة له مثل أن يوصي بدار أن تهدم أو شجر أن تقطع أو ثوب أن يحرق ، وأن يبقى ذلك موقوفا لا يسكن ولا يستغل ، ولا يقام عليه ويترك حتى يهلك ، وكل هذا الوصية به باطل ، فلا تنفذ إن قصد الضرر ، ويقول الله سبحانه : غير مضار [سورة النساء آية : 12] ، ولا إن لم يقصد الضرر لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال ، وقوله تعالى : والله لا يحب الفساد [سورة البقرة آية : 205] .

القسم السادس : فإن قصد بالوصية ضرر الورثة ، وجعلها فيما يتعلق به قربة لله سبحانه ، لم يجز .

قال مالك وابن القاسم وأشهب فيمن أوصى لوارث بثلث ماله ، وقال : فإن لم يجز ذلك الورثة فهو في سبيل الله : لم تجز للوارث ، ولا في سبيل الله; لأنه من الضرر . وإن قال : ذلك في سبيل الله إلا أن يدفعها ورثتي لابني ، أنفذت في سبيل الله إن لم ينفذوها للابن .

وقال ابن القاسم : إن قال غلامي هذا لابني وله ولد سواه ، فإن لم يجيزوه له فهو حر كان ميراثا ، ولا حرية له . ولو قال : هو حر إلا أن ينفذوه ورثتي لابني ، كان كما قال . [ ص: 3646 ]

وقال أشهب في كتاب محمد : لا يجوز وهو من الضرر ، وسواء عنده قال : هو لابني فإن أبوا فأعتقوه ، أو هو عتيق إلا أن ينفذوه لابني . وحملوا قول الله عز وجل : غير مضار [النساء : 12] على العموم فيما يكون ضررا ، وإن كان الثلث .

وقيل : معنى قوله سبحانه : غير مضار [النساء : 12] ألا يوصي بأكثر من ثلثه .

وقال محمد بن عبد الحكم : إنه عتيق قدم ذلك أو أخره ، وهو أحسن; لأن العتق مما يراد به البر ، وإنما أراد أن يؤثر به ولده ، فإن لم يكن قدمه لآخرته ، وأدنى منازله مشكل هل أراد الضرر أم لا؟ وليس هذا مما يقطع به أنه أراد به الضرر ، فلا تسقط وصيته بالشك .

واختلف في مثل ذلك في الزوجة تتصدق بثلثها إرادة الضرر بزوجها ، فقال مالك في كتاب ابن حبيب : ترد صدقتها .

وقال ابن القاسم : ذلك ماض والأمر فيهما واحد ، الزوجة والموصي ، وأرى أن تجوز الوصية إذا كانت الثلث ، وإن قصد بها ضرر الورثة ، ومحمل الآية على ما زاد على الثلث; لأنه حينئذ قد وصى بأموالهم وذلك ضرر حقيقة ، وأما إذا كانت الوصية بالثلث فهو ماله ، له أن يجعله في العتق والصدقة أو أي [ ص: 3647 ] القرب أحب ، وإن كان قد أشرك في النية ألا يتركه لورثته ، وقد يكون وارثه ولدا عاقا ، أو سفيها يتلف ماله فيما لا يحل ، أو عاصيا يكون عدوا له ، فلا يجب أن يترك ثلثه لمثل هؤلاء فلا يمنع من الوصية .

وإن أراد أن يوصي لموسر وغير ذلك مما لا يراد به الأجر لأشبه أن يمنع إذا أراد ضرر الورثة .

وقال في كتاب محمد فيمن قال : غلامي يخدم فلانا لبعض ورثته حتى يبلغ ، ثم هو حر ، فإن لم يجز الورثة فثلثي صدقة ، كانت الخدمة لجميع الورثة ، ثم يكون حرا إذا بلغ الوارث ، وهذا إذا أخرج من الثلث .

قال محمد : وإنما وقع الضرر ها هنا في الوصية بالخدمة ، وأما الحرية فجائزة قائمة إلى وقتها .

القسم السابع : فإن عال على الثلث ، وأخذ الحاضر ، وترك لهم الغائب ، كان الورثة بالخيار بين أن يجيزوا الوصية حسبما وصى ، أو يجمعوا له ثلثه في الحاضر حسبما قصد ، ويرد الزائد على الثلث ، أو يقطعوا بثلث الحاضر والغائب . [ ص: 3648 ]

القسم الثامن : وإن اجتمع فيها عول ومبايعة وجعلها فيما يضر بهم ، وإن أوصى بمعينات ، وصى لهذا بعبد ، ولهذا بدار ، ولهذا بثوب ، وضاق الثلث ، تحاصوا ، وضرب لكل واحد بقيمة وصيته .

وكذلك إذا اشتملت على أجزاء ، وأوصى هذا بسدس ماله ، ولهذا بثلثه ، ولهذا بنصفه ولم يجز الورثة ، تحاصوا الثلث أسداسا وأخذ الموصى له بالسدس سدس الثلث ، والآخر ثلثه ، والآخر نصفه .

واختلف إذا اشتملت على جزء وشيء بعينه على ثلاثة أقوال :

فقال مالك في المدونة : يتحاص جميعهم في الثلث .

وقال أبو محمد عبد الوهاب : فيها ثلاث روايات :

إحداها : البداية بالجزء .

والثانية : أن تبدأ التسمية على الجزء .

والثالثة : أنهم يتحاصون بقدر وصاياهم .

فأما تبدية الجزء إذا وصى هذا بثلثه ، ولآخر بعبد ، ولآخر بدار; فلأن الثلث للميت يصرفه حيث أحب ، والعبد والدار من الثلثين ، وهما حق للورثة ، فإذا لم يجيزوا ، سقطت وصيتهم ، ولو أوصى لرجل بسدس ماله ، [ ص: 3649 ] ولآخر بدار هي قدر ثلثه ، بدي بالسدس ، ويخير الورثة بين أن يجيزوا الدار ، أو يقطعوا له منها بتمام الثلث .

وأما تبدية العبد أو الدار على الثلث فإنه حمل الميت في وصاياه على أن يريد بها الثلث ، ولا يزيد فيها شيئا من غيره كأنه انتزع التسمية من الثلث ، وجعل الباقي لصاحب الثلث ، ويلزم على هذا ألا يقال : إنه عال في وصيته ، ولا يقال للورثة إنه قد وصى بأكثر من الثلث فهل تجيزون؟

والقياس تبدية الثلث; لأنه أوصى به; لأنه هو الذي يملك من التركة ، ولا مقال فيه عليه ، وما سوى ذلك فقد جعله من الثلثين ، فإن أجازت الورثة ، وإلا سقط .

وقيل أيضا : إذا أوصى بثلثه لرجل ، وبعبد لآخر إن ثلث العبد قد وصى به مرتين; لأن ثلثه داخل في الوصية لصاحب الثلث ، فيكون الثلث بينهما نصفين ، وقيل فيمن أوصى لرجل بنصف ماله ، ولآخر بثلثه فإن أجازت الورثة لصاحب النصف ، ولم تجز للآخر فإن الثلث يضرب فيه الموصى له بالنصف بثلاثة أسهم والآخر بسهمين ، فيصير لصاحب النصف ثلاثة أخماس الثلث ، ويتم له الورثة من مال الميت تمام النصف ، وإن أجازوا لصاحب النصف ، ولم يعلموا بالموصى له بالثلث ، كان للموصى له بالنصف سدس المال [ ص: 3650 ] بإجازة الورثة ، ثم يضرب هو والموصى له في الثلث بضرب الموصى له بالنصف بثلاثة أسهم ، ويضرب الآخر بسهمين فيصير له خمسا الثلث ، وللآخر ثلاثة سهام والسدس . [ ص: 3651 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية