صفحة جزء
باب في مساقاة المديان والمريض

ومن "المدونة" قال ابن القاسم فيمن عليه دين يحيط بماله ثم ساقى حائطه: ذلك جائز، بمنزلة أن لو أكرى أرضه أو داره وعليه دين، فإن قام الغرماء بعد ذلك لم يفسخ الكراء ولا المساقاة، وإن ساقى أو أكرى بعد أن أقام عليه الغرماء، كان لهم أن يردوا فعله.

قال الشيخ أبو الحسن -رضي الله عنه-: إذا عقده قبل قيام الغرماء عقدا يمنع من بيع الرقاب- كان لهم أن يردوا عقده في الكراء والمساقاة; لأنه يتهم أن يكون فعل ذلك ضررا بهم، فيمنعون من تعجيل أخذ ديونهم، وإذا كانت المساقاة قبل الدين أو بعده وفي يديه ما يوفي بدينه ثم طرأ عليه ما أذهب ذلك المال- لم ترد المساقاة قبل أمدها أو بعد، وكان مقاله في بيع الحائط دون نقض المساقاة، وسواء كان قيامهم قبل العمل أو بعده.

فقال ابن القاسم: يباع على أن هذا مساقى كما هو، قال: وليس هذا باستثناء. وقال غيره: لا يجوز البيع ويبقى موقوفا إلا أن يرضى العامل بترك المساقاة.

قال الشيخ أبو الحسن -رضي الله عنه-: وإن كانت المساقاة عاما واحدا والثمار مزهية جاز بيع الأصل قولا واحدا، ثم ينظر في بيع نصيب المفلس من الثمرة، فإن كان بيعها على الانفراد أثمن بيعت على الانفراد، وإلا بيعت مع الأصول، وإن [ ص: 4727 ] كانت الثمار مأبورة جاز بيع الأصل بغير خلاف.

ويختلف في إدخال نصيب المديان في البيع مع الأصل، فأجازه ابن القاسم وقال: ليس هذا باستثناء يؤثر في نصيب العامل إذا لم يدخل في البيع. وهو أحسن; لأنه قد سبق بيعه بوجه جائزة وإنما يكون الاستثناء فيما بقي على ملكه وهو قادر على أن يدخله في البيع، ويجوز ذلك أيضا على مذهب أشهب; لأنه يجيز ذلك وإن لم تكن مساقاة، إن استثنى نصف الثمرة، وإن أحب المفلس أن يؤخر بيع الثمار حتى تطيب; لأنه أثمن، ودعا الغرماء إلى إدخالها في البيع مع الأصل كان ذلك لهم; لأن من حقهم أن يباع لهم الآن كل ما قدر على بيعه، ولا يؤخر لسوق يرجى في ذلك، وإن كانت الثمار غير مأبورة كان الخلاف في بيع الرقاب.

فعلى قول ابن القاسم يجوز بيع الرقاب، ونصيب العامل المفلس من الثمرة بخلاف ما لم يعقد فيه مساقاة، وعلى قول غيره يوقف بيع الأصل والثمرة; لأن عنده لا يجوز استثناء بعض الثمرة. وقول ابن القاسم أحسن، وقد تقدم وجه ذلك.

وكذلك إذا كانت المساقاة سنتين أو ثلاثا أو أربعا، فيجوز على قول ابن القاسم بيع الرقاب، ونصيب الغريم من الثمرة دون نصيب العامل، وعلى قول غيره يمنع البيع جملة.

واختلف في مساقاة المريض، فقال ابن القاسم: لا بأس بذلك، وإن كان [ ص: 4728 ] فيها محاباة كانت في الثلث.

وقال ابن عبدوس: أنكرها سحنون، ولا أحفظ عنه فيها تفسيرا، والذي أعرف من مذهبه أنه إن زاد على مساقاة مثله بأمر بين فذلك مثل هبته وما أنفد من عطيته، فيوقف السقاء إلى ما لا يطول ولا يدخل على صاحب الحائط مضرة، فإن صح كانا على شرطهما، وإن مات قبل القسم وحمل ثلثه الحائط تم ما صنع، وإن لم يحمله وحمل المحاباة لم ينظر في ذلك، وخير الورثة بين أن يجيزوا السقاء كما شرط، وإلا قطعوا للعامل بثلث تركة الميت، وفسخت المساقاة، ولا يمكن العامل في حال الوقف من السقي، فإن طال الوقف وخيف على الحائط أن يضيع فسخت المساقاة، ولم ينتظر صحة ولا موتا.

قال الشيخ أبو الحسن -رضي الله عنه-: إذا كانت المساقاة سنة واحدة فقول ابن القاسم حسن، فيمكن العامل الآن من العمل ولا يوقف عنه، فإن صح المريض كانت له المحاباة، وإن مات كانت في الثلث أو ما حمل الثلث منها، ولا يجعل الحائط في الثلث; لأن الورثة ممكنون منه، والمحاباة حق للعامل لا عليه، فإن رضي بالعمل على ذلك لم يمنع منه.

وقد اختلف قول ابن القاسم في كتاب العتق في المريض يشتري العبد ويحابي في الثمن، فجعل المحاباة مرة كالهبة المنفردة عن البيع تكون في الثلث، ولا مقال للبائع في المبيع إذا لم تتم المحاباة.

وقال مرة: لا يتم البيع إلا بتمام المحاباة. فعلى القول الأول يجبر العامل الآن على العمل، وعلى القول الآخر [ ص: 4729 ] لا يجبر حتى يموت صاحب الحائط فتتم له المحاباة، وهذا يصح إذا كان العامل ممن يجهل، ويظن أن المحاباة تصح من رأس المال.

وعلى كلا القولين فإن ذلك حق له، فإذا رضي بالعمل لم يمنع، وإن كانت المساقاة سنين صح على قول ابن عبدوس; لأن مقال الورثة في حبس الرقاب، وإن لم تكن محاباة فإن حمل الثلث الرقاب صحت المحاباة، وإلا رد وقطع له بثلث الميت. [ ص: 4730 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية