صفحة جزء
[ ص: 5365 ] باب في نظر القاضي في أقضية من كان قبله ونقضها

القضاة ثلاثة: عدل عالم، وعدل مقلد، وغير عدل.

فإن كان عدلا عالما، كانت أحكامه على المضي. قال ابن حبيب: ولا يعترض فيها إلا على وجه التجوز، وإن عرض عارض فيها بخصومة، وأما على وجه الكشف والتعقب فلا، وإن سأله الخصم ذلك، إلا أن يظهر له خطأ بين لم يختلف فيه، فقد يذكر الوجه الذي بنى عليه الحكم، فيوجد قد خالف نصا من آية أو سنة أو إجماع.

قال: وإن كان عدلا جاهلا فإن أقضيته تكشف، فما كان صوابا أمضى، وما كان خطأ لم يختلف فيه.

يريد أنه تتعقب من وجه الفقه، إلا أن يعلم أنه لا يحكم إلا بعد مشاورة أهل العلم. وأرى إذا كان يحكم برأيه، من غير مطالعة لأهل العلم، أن يرد من أحكامه ما كان مختلفا فيه; لأن ذلك كان منه تخمين وحدس، والقضاء بمثل ذلك كله باطل.

قال: وإن كان جائرا في أحكامه- لم تجز أقضيته كلها، وعلى من ولي بعده أن يردها كلها صوابا كانت أو خطأ; لأنه لا يؤمن أن يظهر العدل والصواب، وباطن أمره الجور، إلا ما عرف أن باطن أمره كان صحيحا. [ ص: 5366 ]

وقال أصبغ: إذا كان ممزوجا فيه هذا وهذا فأرى أن يجوز من أقضيته ما عدل فيه ولم يسترب، وينقض منها ما تبين فيه جور أو استريب، ويعمل فيها بالكشف كما يصنع بأقضية الجاهل، وإلا لم تنفذ الأحكام اليوم.

وقال مالك: إذا قضى القاضي بما اختلف الناس فيه، ثم تبين له أن الحق في خلافه - كان له أن ينقضه، وليس لمن ولي بعده نقضه.

قال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: ليس ذلك في كل ما اختلف فيه من الآثار والرأي، فإن كان في ذلك في سنة قائمة- كان للثاني نقضه، وإن كان الحديث مختلفا فيه وفي معناه مثل حديث العمرى، فحكم بحديث ابن شهاب لا ترجع للذي أعطاها، فإنه يمضي، ولا أرى أن يحكم به ابتداء؛ لحديث القاسم: ما أدركت الناس يقضون إلا وهم على شروطهم.

قال: وما كان من باب الترك لما فعل الفاعل، أو إمساك عن الحكم لغيره، مثل ما جاء من الحنث بالطلاق قبل النكاح، والعتق قبل الملك، ونكاح المحرم، والحكم بالقسامة، فحكم حاكم بإمضاء النكاح والعتق، وأقر [ ص: 5367 ] العبد، وأقر نكاح المحرم، ثم رفع إلى من يرى خلاف ذلك، فإنه يحكم به، ولا يمنعه من ذلك ترك الأول، ورأى أن الترك ليس بحكم.

وقول ابن القاسم في كتاب النكاح: أن ذلك حكم، قال: ولو فسخه الثاني لكان خطأ في قضائه. وهو أحسن; لأن الأول حكم على الزوجة أنها في عصمة الأول، وأنها حلال له، وأثبت ملك السيد للعبد، وأسقط مقال العبد، وأباح له إن كانت أمة أن يصيبها.

وقال محمد: إذا حكم القاضي بالشاهد مع اليمين في حق، ثم ولي بعده قاض، ففسخه -كان للثالث أن ينقض فسخ الثاني. قال: وهذا عظيم أن يرد ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلي ومن مضى من التابعين والأخيار.

قال: وإن قال الأول: لا أحكم بشاهد ويمين، ثم ولي آخر ممن يرى الحكم بالشاهد واليمين- كان ذلك له. قال: وليس حكم الثاني يفسخ كحكم الأول. يريد: أن الأول من باب الترك، وقد تقدم قول ابن القاسم أن الترك حكم، إلا أن الأول ها هنا حكم بخلاف النص، قياسا على من تبين يقين [ ص: 5368 ] الخطأ، وكذلك إذا صلى قبل الوقت، أو توضأ بماء نجس، ثم علم بعد ذلك، تلزمه الإعادة، وقياسا أيضا على القبلة إذا أخطأها.

وإن كان حلف المدعى عليه على تكذيب الشاهد -كان حكما لا شك فيه، إلا أنه حكم بخلاف النص، فللثاني أن ينقضه.

قال ابن القاسم: وإن وجد الطالب شاهدا آخر- ضم إلى الأول وحكم بهما. وهذا أحسن، وسواء كان الأول حلف المطلوب على تكذيب الشاهد أو لا; لأن المشهود له لم يمكن من اليمين مع الأول، ويصير الآن بمنزلة شاهد على طلاق أو عتق، فحلف الزوج أو السيد ثم وجد شاهدا آخر، فلم يختلف أنه يضم إلى الأول، ويحكم بالطلاق والعتق; لأن الزوجة والعبد لم ينكلا عن اليمين مع الأول إن حكم القاضي بما عنده من العلم قبل أن يلي أو بعد أن ولي، ولم يكن في مجلس الحكومة، أو كان في مجلس الحكومة فأقر أحدهما بشيء قبل أن يتقدما إلى الحكومة، كان للثاني أن ينقضه.

واختلف إذا أقر بعد أن جلسا للحكومة ثم أنكر، فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم به. وقال ابن الماجشون وسحنون: يحكم به، ورأيا أنهما [ ص: 5369 ] حكماه فيما يكون من إقرار أو جحود، فلو جحد أحدهما ثم أقر في موضع، لا يقبل ما رجع إليه من حجة أو غيرها بعد الجحود، لم يحكم عليه بما يوجب الجحود عند مالك، وله ذلك على قول ابن الماجشون وسحنون، والأول أحسن، ولا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة.

واختلف إذا حكم فقال محمد: أرى أن ينقض حكمه بذلك.

يريد ما كان هو قاضيا لم يعزل، فأما غيره من القضاة فلا أحب له نقضه.

ومعنى قوله ينقضه هو إذا تبين له خلاف رأيه الأول. وقيل: لا ينقضه ولا ينتقل من رأي إلى رأي، ولو كان ليس من أهل الاجتهاد، ولم يكن حكمه الأول شيئا، وينظر إلى من يقلده الآن، فإن كان ممن يرى الحكم بمثل الأول لم ينقضه، وإن كان ممن لا يرى ذلك نقضه. وأما إن كان من أهل الاجتهاد، ولم يتبين له رأي غير الأول لم ينقضه، إلا أن يتبين له أن ذلك يؤدي مع فساد قضاة اليوم، إلى القضاء بالباطل; لأن كلهم يدعي العدالة. ويقول: اعترف عندي بكذا، فيجب عليه أن يرجع في قضائه؛ لما في ذلك من الذريعة إلى تلف أموال الناس والقضاء بالباطل، فيكون هذا ضربا من اجتهاد ثان غير التي حكم بها.

وقال سحنون: إذا أتى القاضي كتاب قاض بما اختلف فيه الفقهاء، [ ص: 5370 ] وليس من رأي الذي أتاه الكتاب من عنده - لم ينبغ له أن يجيزه ولا ينفذه; لأن الأول لم ينفذ شيئا، فلا ينفذ ما ليس هو عنده بمعتدل.

وقال أشهب في المجموعة: إن كان كتب للأول أنه حكم بما في كتابه- جاز لهذا أن ينفذه، وإن كتب بما ثبت عنده- لم يعمل هذا برأي الذي كتبه. ولا يختلف فيما ذكره إذا لم ينفذ الأول الحكم، وإنما الاختلاف إذا حكم الأول، وكتب إلى هذا أن يستخرج له المال ممن حكم عليه، أو يمكن الزوجة من القادم بكتابه، فلم ير ذلك سحنون; لأنه يجبرهما على ما لا يراه صوابا.

ورأى أشهب أنه لما حكم الأول بذلك، ولم يجز لهذا أن ينقضه، ووجب للمحكوم له قبض المال، وأن يمكن الزوجة ولا يقدر على ذلك إلا بقاض، وفي وقوف هذا بطلان لحقه وجب عليه أن يقضي له. [ ص: 5371 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية