صفحة جزء
باب في عقل الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة

روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في الموضحة خمس من الإبل، وفى المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفى المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية" . وكل هذه الشجاج المراد بها ما كان في الرأس ما خلا الجائفة.

وقال مالك: حد الموضحة ما أوضح العظم وإن مدخل إبرة، والمنقلة ما أطار فراش العظم وإن صغرت، والمأمومة والجائفة ما خرق إلى الدماغ أو إلى الجوف وإن مدخل إبرة . فأما الموضحة فيجب فيها نصف العشر إذا كانت في الدماغ حيث كانت من الجمجمة والجبهة; لأنها إذا أنفذت من الجبهة بلغت الدماغ.

واختلف في موضحة الخد، فقال مالك: فيها ديتها كموضحة الرأس . وقال عبد العزيز بن أبي سلمة في المبسوط: ليس مثلها وفيها الاجتهاد. وهو أشبه; لأنها إذا أشكلت إلى ما يقابلها على الاستواء لم يقابلها شيء من الدماغ، وإنما يكون في الموضحة نصف العشر إذا كانت في الرأس بخلاف غيره من الجسد; لأنها في موضع مخوف إن زادت أفضت إلى هلكة. [ ص: 6393 ]

وفي موضحة الأنف حكومة، قال مالك: لأنه ليس من الرأس وإنما هو عظم بائن . قال أشهب عند محمد: ولو نفذت الضربة إلى عظم الوجه فأوضحته كان فيها دية الموضحة، وإن نقلته كان فيها دية المنقلة، وإن نفذت إلى دماغه كان فيها ثلث الدية .

واختلف في الموضحة تبرأ على شين، فقال مالك: يزاد بقدر الشين قليلا كان أو كثيرا . وروى عنه ابن نافع أنه قال: لا يزاد فيها إلا أن يكون شينا منكرا . وقال أشهب عنه: لا يزاد شيء، واستشهد أشهب بظاهر الحديث . وهو أحسن; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل دية مسماة ولم يفرق مع علمه أن الجراح تشين، وهذا في الخطأ.

وأما في العمد، فإنه إن برأ الأول على شين والثاني على غير شين فإنه يكون للأول دية ذلك الشين.

وقال عبد الملك بن الماجشون في المبسوط في موضحة العمد لا تقاس ولا يعرف غورها حتى تدمى ويدمى ما حولها: فلا قود فيها; لأنه لا يقاد إلا بقدر وقياس.

قال الشيخ -رحمه الله-: أرى أن يسأل أهل المعرفة عن ذلك الشين الذي يبقى [ ص: 6394 ] فإن كان يستدل به على صفة ما كانت اقتص بذلك، وإن أشكل الأمر حلف المجروح واقتص، والظالم أحق أن يحمل عليه، وقد قال ابن القاسم في الذي يقول ذهب سمعي أو بصري وجعل يتصامم أو يتعامى ولم يتبين صدقه ولا كذبه: أنه يحلف ويكون الأمر على ما قال .

واختلف في الهاشمة -وهي التي هشمت العظم ولم تنقله- إذا كانت خطأ، فقال محمد: ليس فيها إلا دية الموضحة . وقال ابن القصار -من رأيه-: فيها دية الموضحة وحكومة. قال: وكان شيخنا أبو بكر يقول فيها ما في المنقلة. والقول أن له دية الموضحة وفي الزائد حكومة أحسن; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب نصف العشر مع بقاء العظم صحيحا، وإذا زاد هذا زيد عليه بقدر ذلك الزائد فيقوم لو كان المجروح عبدا به موضحة كم قيمته وكم قيمته وبه هاشمة، فالجزء الذي بينهما يكون مثله من الدية، وفيما قبل ذلك من الشجاج حكومة مثل: الخارصة : وهي التي تشق الجلد قليلا. ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم قليلا. ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم قليلا ولم تبلغ السمحاق. ثم السمحاق: وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة. ثم الواضحة بعد هؤلاء وفي كل هذه الشجاج إذا كانت عمدا القصاص. [ ص: 6395 ]

واختلف في القصاص من الهاشمة، فقال ابن القاسم: لا قصاص فيها. وقال أشهب: يستقاد منه موضحة إذا لم تنقل بالأول . وقال محمد: هذا صواب إذا كان بدء جرح الأول موضحة ثم تهشمت، وأما إن كانت الضربة هي التي هشمته فلا قود فيها . يريد: إذا رضت اللحم فهشمت ما تحتها من العظم، فأما لو كان ذلك بسيف أو بسكين فشقت اللحم فبلغت العظم ثم هشمته فإن له أن يقتص منه موضحة; لأن الجارح لو وقف لما بلغ العظم ولم يتماد كانت موضحة.

وإن نقلت بعد الهشم كانت فيها دية المنقلة، ويختلف إذا أحب أن يستقيد موضحة، فذلك له عند أشهب وليس ذلك عند ابن القاسم، وإن كانت من أولها منقلة كان فيها عشر ونصف.

واختلف في القصاص من عمدها ، فمنع ذلك ابن القاسم وأشهب ، وحكى أبو محمد عبد الوهاب عن مالك فيها روايتين: جواز القود، ومنعه .

وأرى أن يسأل عن ذلك أهل المعرفة فإن قالوا يصح إذا كشف اللحم ووضح العظم أن يزال من العظم بقدر الأول، فعل ذلك لأن المنقلة ما [ ص: 6396 ] نقلت الوجه الأعلى من العظم، ولو أطارت الوجه الأعلى والأسفل كانت مأمومة، ولا خلاف في المأمومة أن خطأها وعمدها واحد، أعني: أنه لا قصاص في عمدها، غير أنه يفترق الأمر في صفة الدية، فله في الخطأ ثلث الأخماس، وفي العمد ثلث الأرباع .

وأما الجائفة وهو أن يصاب في الجوف فإن لم ينفذ كان فيها في الخطأ حكومة، وفي العمد القصاص، وإن خرقت إلى الجوف كان فيها ثلث الدية.

واختلف إذا نفذت فخرجت من الجانب الآخر، هل يكون له دية جائفة واحدة أو دية جائفتين؟ والصواب: أن تكون فيها دية جائفة واحدة; لأنه إنما جعل فيها ثلث الدية لغررها وأنها ربما صادفت مقتلا أو الكبد أو غير ذلك، وذلك إنما يخشى في حين الضربة من خارج، وهي إذا تمادت حتى بلغت الجانب الآخر لم يكن فيها سوى ثلث واحد، ونفوذها بعد ذلك إذا نفذت من داخل إلى خارج لا غرر فيه. [ ص: 6397 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية