صفحة جزء
باب في زكاة الحرث ، والأصناف التي تجب فيها الزكاة ، ونصابها ، والقدر الذي يجب للمساكين فيها

الزكاة تجب فيما أخرجت الأرض إذا كان مقتاتا مدخرا أصلا للعيش غالبا ، وكان خمسة أوسق فصاعدا- العشر إذا كان بعلا ، أو يشرب بالعيون ، وما أشبه ذلك مما لا تتكلف فيه مؤنة . وإن كان مما يتكلف سقيه بالغرب ، أو بدالية ، أو سانية ، فنصف العشر . والأصل في ذلك قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون الآية [البقرة : 267] ، وقوله تعالى : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان ثم قال : وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام : 141] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" اجتمع عليه الموطأ والبخاري ومسلم . وقال : "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة" أخرجه مسلم ، وقال : "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر" أخرجه البخاري ومسلم . [ ص: 1072 ]

فأفادت هذه الآيات والأحاديث أربعة أشياء : وجوب الزكاة فيما أخرجت الأرض ، ومعرفة الجنس المزكى ، والنصاب ، والقدر المأخوذ للمساكين .

فأفادت الآية الأولى تعلق الزكاة بما أخرجت الأرض خاصة دون معرفة الجنس والنصاب ، وهو من باب المجمل . وأفادت الآية الثانية معرفة الجنس من تمر وزرع وغيرهما مما ذكر في الآية . وأفاد الحديث الأول معرفة النصاب ، وأحد الأصناف المزكاة وهو التمر . وأفاد الحديث الثاني معرفة وجوب الزكاة في الحب . وأفاد الحديث الثالث معرفة ما يعطى المساكين وهو العشر تارة ، ونصف العشر تارة . فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في شيئين : التمر والحب مبهما ، ولم يبين ذلك الحب ما هو ؟

واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال ، فقال مرة : الزكاة تجب في القمح ، والشعير ، والسلت ، والعلس ، والأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطنية ، وقال في كتاب محمد : كل ما كان من الحبوب يؤكل ويدخر ويخبز ففيه الزكاة . [ ص: 1073 ]

وقال في مختصر ابن عبد الحكم : كل حب يأكله الناس ويدخرونه ففيه الزكاة . وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد : يريد إذا كان أصلا للعيش . وقال أبو محمد عبد الوهاب : كل مقتات من الحبوب يدخر وما جرى مجراه ففيه الزكاة .

قال الشيخ - رضي الله عنه - : ورد الحديث بزكاة التمر ، وهو أصل القوت وغالب العيش بالمدينة وسائر مدن النخيل . وقد أخرج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه كان يأخذ لأهله من خيبر قوت سنة عشرين وسقا من شعير وثمانين وسقا من تمر" . وأتى الحديث في الحب غير مفسر ، فرده مالك مرة إلى ما يكون من العيش غالبا قياسا على التمرة وإنما يكون ذلك فيما يختبز ، ولا يجب على هذا زكاة القطنية ؛ لأنها لا تختبز إلا في الشدائد وعند الضرورات ، وليس ذلك الشأن فيها .

وممن ذهب إلى أن لا زكاة في القطنية : الحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، [ ص: 1074 ] وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وابن المبارك ، ويحيى بن آدم ، وأبو عبيدة ، وعلى رواية ابن عبد الحكم لا تقتصر الزكاة على ما ذكره عنه ابن القاسم ، بل تجب على كل بلد فيما يكون عندهم من ذلك مقتاتا أصلا للعيش ؛ فمن ذلك : التين . قال أبو الحسن ابن القصار : يرجح فيه قول مالك ، قال : وإنما تكلم على بلده ولم يكن التين عندهم ، وإنما كان يجلب إليهم ، وأما بالشام وغيرها ففيه الزكاة ؛ لأنه مقتات عندهم غالبا كما يقتات السمسم والتمر بالعراق . انتهى قوله .

قال الشيخ - رضي الله عنه - : وكذلك كثير من أرياف الأندلس ، هو عندهم أصل للعيش ، ويعولون عليه لأنفسهم ولعيالهم كما يعول أهل اليمن على التمر أو قريب منه ، فمن كان ذلك شأنهم وجبت عليهم فيه الزكاة . ومعلوم أن الاستعمال له والاقتيات به أكثر من الزبيب ؛ ولم يختلف المذهب أن الزكاة تجب في الزبيب ، وهو في التين عند من ذكرنا أبين .

والقول بوجوب الزكاة في القطاني أحسن ؛ لأنها تراد للاقتيات وإن كان غيرها أكثر ما يراد لذلك . وقولأبي محمد عبد الوهاب : "إنها تجب في [ ص: 1075 ] كل مقتات مدخر ليس بحسن ، إلا أن يكون أصلا للعيش ، وهذا هو الفرق بين ما تجب فيه الزكاة ، وبين ما يحرم فيه التفاضل ولا تجب فيه الزكاة ، كالجوز واللوز وما أشبه ذلك ؛ لأنه وإن كان مقتاتا مدخرا فإنه لا تجب فيه الزكاة ؛ لأنه ليس أصلا للعيش .

واختلف فيما كان يدخر ويراد للتفكه . فقال مالك وابن القاسم : لا زكاة في ذلك . وقال عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب : تجب الزكاة في الثمار كلها ذوات الأصول ، ما ادخر منها وما لم يدخر ؛ لقول الله -عز وجل- : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات . وقال : وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام : 141] ، قال : فعم الثمار كلها .

قال الشيخ - رضي الله عنه - : فيلزمه أن يقول : إنها تجب في غير ذوات الأصول ؛ لقول الله سبحانه : وغير معروشات ، والمذهب على أن الزكاة تجب فيما لا يدخر ويتفكه ، إذا كان عامة ذلك الجنس الادخار : كالبلح وهو مما يتفكه وليس بمقتات ولا مدخر ، فجعل فيه الزكاة ؛ لأن الغالب من ثمر النخل الادخار ، فألحق القليل [ ص: 1076 ] بحكمه . وعلى القول أن الأتباع مراعاة في نفسها لا يزكى ؛ لأنه ليس مما في الحديث ولا أصلا للعيش ، وكذلك العنب الشتوي هو تفكه .

وتجب الزكاة فيما يزهي من النخل ، وإن كان لا يتمر ؛ لأنه مما هو أصل للعيش . والاختلاف ، هل تجب الزكاة بنفس الزهو وقبل أن يصير تمرا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية