صفحة جزء
باب ما يجوز للمحرم قتله ، من الصيد وللحلال في الحرم .

قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفارة والكلب العقور" . وقال : " خمس فواسق يقتلن في الحرم . . ." فذكر الخمس المتقدمة . اجتمع على هذين الحديثين الموطأ والبخاري ومسلم . فنص الحديث الأول على ما يحل للمحرم ، والثاني على الحلال في الحرم ، وزاد مسلم : "الحية" . وقال أبو مصعب يقتل المحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور حسب ما في الحديث .

ولا خلاف في العقرب والحية والفأرة والكلب العقور . واختلف المذهب في الغراب والحدأة ، فأجاز أبو مصعب قتلهما ، وقد تقدم قوله . [ ص: 1304 ]

وقال ابن القاسم في كتاب محمد : لا أحب للمحرم أن يقتلهما حتى يؤذياه ، ولو قتلهما قبل أن يؤذياه لم يكن فيهما جزاء . وقال مالك في المختصر : لا يقتلان في الحرم خوف الذريعة للاصطياد ، إلا أن يؤذياه . وقال أشهب : إن قتلهما من غير اضطرار وداهما . والأول أصوب للحديث ، وقد يحمل قول أشهب في المنع لظاهر القرآن ؛ لأنهما من الصيد . وقد اختلف هل يخص القرآن بخبر الواحد ؟

واختلف في العقرب والفأرة هل هما من الصيد ؟ فقال أبو محمد عبد الوهاب : للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر ، ولا جزاء عليه فيها . فذكر الأسد والذئب والنمر والفهد ، ومن الطيور الغراب والحدأة ، قال : وأما الكلب العقور والحية والعقرب والزنبور فله قتله بغير معنى الصيد . انتهى قوله . قاله عند غير واحد من أهل العلم ، وأما غير هذين من سباع الطير ، فلا يقتلهما ابتداء لعدم النص فيه . قال مالك : فإن فعل فعليه الفدية ، إلا أن يبتدئه بإيذاء ، فلا شيء عليه . قال ابن القاسم : وكذلك لو أن رجلا عدا على رجل يريد قتله ، فدفعه عن نفسه فقتله ؛ لم يكن عليه شيء . قال أشهب في [ ص: 1305 ] كتاب محمد : عليه الجزاء ، وإن كان ابتدأته . يريد : إذا كان قادرا على أن يصرفها بغير قتل .

وقول ابن القاسم أحسن ألا شيء عليه ؛ قياسا على الغراب والحدأة لما كان شأنهما الإيذاء ، فكذلك ما كان منه أذى من غيرهما .

واختلف في المراد بالكلب العقور ، فقول مالك في الموطأ : أنها السباع والأسد والنمر والفهد . فحمل الحديث على الكلب الوحشي . وظاهر قول أشهب : أنه الكلب الإنسي ؛ لأنه قال : يقتل الكلب ، وإن لم يعقر .

وقال أبو محمد عبد الوهاب : للمحرم قتل الكلب العقور والحية والفأرة بغير معنى الصيد . قال : وليس من ذلك الصقر والبازي ، ولا القرد ولا الخنزير ، إلا أن يبتدئ شيء من ذلك بالضرر . انتهى قوله . وقال مالك في كتاب محمد : ولا يقتل المحرم قردا ولا خنزيرا . قال ابن القاسم : لا وحشيا ولا أهليا ولا خنزير الماء . قال مالك : وفدى ذلك كله .

ووقف محمد في خنزير الماء . قال : ولا شيء في الضفدع . قال أشهب : [ ص: 1306 ]

وقيل يطعم شيئا .

وسئل مالك : أيقتل المحرم الوزغ ؟ فقال : لا ؛ لأنها ليست من الخمس الفواسق التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن ، ولو أرخص للناس في هذا ؛ لزادوا فيه عددا كثيرا ، وإنما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خمس . . ." . قال : ويقتل في الحرم إن كان حلالا ، ولو لم يقتل في الحرم ؛ لكثرت وغلبت وأما المحرم فشأنه يسير . فمنعه المحرم من قتل الوزغ دليل على أنه رأى أن العقرب والفأرة من الصيد ، وأنهما استثنيا من الصيد ، ومنع من قتلهما حماية ؛ لئلا يتذرع الناس إلى قتل الصيد .

والقياس أن يلحق بالعقرب والفأرة ، وقد ورد في الحديث الحث على قتلهما ، ولولا أن شأنهما الإيذاء لم يحض على ذلك ؛ لأنه لا يجوز إتلاف نفس الحيوان لغير علة ، وذلك من السرف ، ولولا أن شأنهما الإيذاء لم يجز قتلهما للحلال في الحرم .

ومنع من قتل الخنزير البري بخلاف السباع ، وإن كان لا يجوز أكله ؛ لأنه ليس من شأنه أن يعدو .

وقال : وتقتل العقرب والفأرة صغارها وكبارها . وقال ابن القاسم في صغار السباع والنمور إن كانت لا تفترس : فلا ينبغي أن تقتل . قال في [ ص: 1307 ] كتاب محمد : وإن قتلت ؛ فلا شيء عليه . وقال أشهب في كتاب محمد : ما كان من كبار السباع ، فإنه تقتل صغارها مع كبارها وكذلك الحية والعقرب والفأرة ، صغارها وكبارها سواء . وقال : إن قتل غرابا وحدأة أو صغار السباع على غير إضرار ولا أذى ؛ فعليه جزاؤه . فقال في الأول : كبار السباع يقتل صغارها وكبارها . يريد : في الصنف الذي هو كباره ، كالأسد والنمر والفهد ، فصغاره وكباره سواء .

والصنف الذي هو من صغار السباع ، كالثعلب والضبع ، صغارها وكبارها سواء إن قتلها ابتداء وداها ، وإن قتلها بعد أن آذته ؛ فلا شيء عليه . وكره مالك قتل سباع الطير ، فإن فعل وداها . قال ابن القاسم : فإن عدى عليه شيء منها ، فخافه على نفسه فقتله ؛ فلا جزاء عليه . وقال أشهب في كتاب محمد : عليه الجزاء ، بخلاف من قتل سباع الطير .

والأول أحسن ؛ لأنها إذا عدت ، صارت كالغراب والحدأة .

التالي السابق


الخدمات العلمية