صفحة جزء
فصل [في الخلاف في قتل العلج]

اختلف في العلج يلقاه المسلمون ، فيقول : جئت أطلب الأمان ، هل يقبل منه ؟

فقال مالك في المدونة : هذه أمور مشكلة ، ويرد إلى مأمنه .

وقال في مدونة أشهب : لا يقبل قوله .

ولم يفرق في هذين القولين بين أن يؤخذ في بلاد الحرب ، أو في بلاد المسلمين . وقال في المدونة في أهل مصيصة يخرجون في بلاد الروم ، فيلقى العلج منهم مقبلا إلينا ، فإذا أخذناه ؛ قال : جئت أطلب الأمان . قال : هذه أمور مشكلة ، ويرد إلى مأمنه .

وقال محمد : إن لقيته السرية على الطريق ، فقال : جئت أطلب الأمان ، أو رسولا ، فإن ظفر به في بلد العدو ؛ لم يقبل قوله ، إلا بدلالة تحق قوله . ولو صار [ ص: 1359 ] في عمل المسلمين ، ولم يدخل بعد ، ولعله يقول : أنتهي إلى موضع سماه ؛ فأمر هذا مشكل ، وترك الشك أفضل .

وقال ابن القاسم في العتبية : إن أخذ ببلدنا ؛ فقال : جئت أطلب الفداء ؛ قبل قوله . وإن أخذ بفور وصوله ؛ فهو مثله .

وإن لم يظهر عليه إلا بعد طول إقامة بين أظهرنا ؛ لم يقبل قوله ، ويسترق . وليس هو لمن وجده .

قال الشيخ -رحمه الله- : إن قام دليل على صدقه ؛ كان آمنا ، ولم يسترق . وإن قام دليل على كذبه ؛ لم يقبل قوله ، وكان رقيقا . وإن لم يقم دليل على صدقه ولا كذبه ؛ فهو موضع الخلاف .

فرأى مرة أنه صار أسيرا رقيقا بنفس الأخذ ؛ لأنه يدعي وجها يزيل ذلك عنه من غير دليل . ورأى مرة أن يقبل قوله ؛ لإمكان أن يكون صدق ، ولا يسترق بالشك . وهو أحسن .

فإن قال : جئت رسولا . ومعه مكاتبة ، أو قال : جئت لفداء . وله من يفديه ، أو لقريب لي . وله قرابة بذلك البلد ؛ كان دليلا على صدقه . وإن لم تكن معه مكاتبة وليس مثله يرسل . أو لم يكن له من يفديه ، أو لا قرابة له ؛ لم يصدق .

فإن قال : جئت أطلب الأمان . وقد خرج إليهم عسكر المسلمين ، فوجد [ ص: 1360 ] على طريق الجيش بلا سلاح ؛ كان أمره مشكلا .

وإن لم يكن مقبلا إلينا ، ولا على طريقهم ؛ لم يصدق .

وإن لم يكن خرج إليهم جيش ، فلقيه في بلاد المسلمين ؛ لم يقبل قوله ؛ لأنه لا يشبه أن يأتي إلى بلاد المسلمين يطلب الأمان من غير أمر يوجب ذلك ، إلا أن يكون الجيش على خروج إليهم . ومن لم يدع شيئا من ذلك ؛ كان فيئا .

وقال مالك في العدو يوجد على ساحل المسلمين ، فزعموا أنهم تجار ؛ فلا يقبل منهم . ولا يكونوا لأهل تلك القرية التي سقطوا إليها فيهم شيء . ويكون الأمر فيهم إلى والي المسلمين ، يرى فيهم رأيه .

وقال فيمن انكسرت مراكبهم ، فزعموا أنهم تجار ، ومعهم السلاح . أو ينزلون للماء ، وهم يشكون العطش : أن الإمام يرى فيهم رأيه ، وليسوا لمن أخذهم . قال الشيخ -رحمه الله- : إن زعموا أنهم تجار ، ومعهم متاجر العادة السفر بها إلى بلاد المسلمين ؛ صدقوا . وإن لم تكن العادة السفر بها إلى بلاد المسلمين ، أو لا متاجر معهم ، ومعهم سلاح ؛ كانوا فيئا .

وإن لم تكن متاجر ولا سلاح ، ولا يدرى ما كان معهم ، وادعوا أنهم كانت معهم متاجر ، فإن كانوا من بلد ليس من شأنه السفر إلى بلاد المسلمين ؛ [ ص: 1361 ] كان دليلا على كذبهم .

وكذلك ، إن كان شأنهم السفر إلينا ، وأشكل أمرهم ، هل كانت معهم متاجر ؟

فإن كانت معهم متاجر ، وعلم أنهم لم يبرزوا المتاجر خديعة ؛ صدقوا ، وقبل قولهم . وإن لم يكن معهم متاجر ؛ كان دليلا على كذبهم وكانوا فيئا ؛ لأن هؤلاء قد ألجئوا إلينا ، بخلاف من أتى يمشي طائعا ، ولو كان أعيان هؤلاء شأنهم السفر إلينا ؛ لصدقوا .

وإن احتيج إلى قتال الذين يشكون العطش ومراكبهم قائمة ، ثم قدر عليهم بعد القتال ، فإن لم يكن ريح ينجون بها ، كانوا كالذين انكسرت مراكبهم ، وهم كأسارى قاتلوا ، فإن كان لهم ريح ينجون بها ، وطلع إليهم المسلمون ، وأخذوا بعد القتال ؛ كانوا لمن أخذهم ، وفيهم خمس المسلمين ، إلا أن يكونوا لم يقدروا على قتالهم ، إلا لمكان جملة المسلمين الذين بالمدينة . ولو كانوا على بعد من المدينة ، ولم يقدروا عليهم بانفرادهم ، فيكونوا لجميع من أخذهم ولأهل المدينة ، والذين أخذوهم حينئذ بمنزلة سرية قويت بجيش من خلفها .

وعلى هذا الجواب فيمن أتى من العدو في البر فأخذ بعد قتال . فإن كانوا في طرف من بلاد الإسلام ، كانوا لمن أخذهم ، وفيهم الخمس ؛ لأنه لولا قتالهم إياهم للحقوا ببلادهم .

وإن كانوا على غير ذلك ؛ كانوا فيئا ، ولا شيء لمن أخذهم ؛ لأن بلاد جميع المسلمين أحدقت بهم وشملتهم ، فهم في قتالهم كأسارى قاتلوا . [ ص: 1362 ]

وكل موضع يكونون فيه فيئا ، فإن الإمام مخير بين الأوجه الخمسة : القتل والاسترقاق والجزية والمن والفداء .

وهذا معنى قول مالك : يرى فيهم الإمام رأيه .

وقال محمد في مراكب تكسرت ، فوجد فيها الذهب والفضة والمتاع والطعام : فإن كان ذلك مع الحربيين ؛ كان سبيله سبيل الحربيين ، وأمر ذلك كله إلى الوالي . وإن لم يكن معه أحد من العدو والذين كان لهم ، أو كانوا طرحوه خوف الغرق ؛ كان لمن وجده ، ويخمس العين وحده ، إلا أن يكونوا في جنب قرية من قراهم ؛ فيخمس ، وإن لم يكن عينا ، إلا أن يكون يسيرا .

روى ذلك أشهب عن مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية