صفحة جزء
باب فيما تصح به الذكاة

الذكاة جائزة بكل مجهز من: حديد، أو قصب، أو عود، أو حجر، أو زجاج; لحديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله - عز وجل - فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عنه: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" أخرجه الصحيحان; البخاري ومسلم .

واختلف في الذكاة بثلاث; العظم والسن والظفر على أربعة أقوال، فأجاز ذلك مالك في المدونة بالعظم . ومنعه في كتاب محمد بالسن والظفر . وقال ابن حبيب : لا يؤكل ما ذبح بالظفر والسن إذا كانا مركبين . قال: وإن كانا منزوعين ولم يصغرا عن الذبح وعظما حتى يمكن الذبح بهما; فلا بأس .

وقالا أبو الحسن ابن القصار : رأيت لبعض شيوخنا أنه مكروه بالسن، مباح بالعظم. قال : ومذهب مالك أنه لا يستبيح الذكاة بالسن والظفر، هذا [ ص: 1527 ] الظاهر من مذهبه. وعندي أن السن إذا كان عريضا محدودا ، والظفر كذلك وقعت به الإباحة ، كالعظم. ولكنه مكروه كالسكين الكالة. وبهذا أخذ أبو حنيفة إذا كان منفصلا وعند الشافعي أنه لا تقع الإباحة بالعظم ولا بالسن ولا بالظفر، وإن كان منفصلا .

فالظاهر من قول أبي الحسن : أنه حمل قول مالك أنه لا تصح الذكاة بالسن والظفر بحال، متصلا كان، أو منفصلا، وأنه هو أجاز ذلك في الوجهين جميعا، وإن كان متصلا; لأنه قال: وبهذا أخذ أبو حنيفة إذا كان متصلا. وقال في احتجاجه: لا فرق بين متصل أو منفصل. يريد: إذا قطع وفرى الأوداج والحلقوم.

قال الشيخ - رضي الله عنه -: الحكم في المتصل والمنفصل سواء; لأن الاستثناء ورد فيهما جملة، ولم يفرق، فوجب حمله على ما يقع عليه هذه التسمية على أي حال كانا. والنهي محتمل أن يكون ذلك شرعا لا يؤكل ما ذكي بهما وإن أنهر الدم، أو لأن شأنهما أن لا يجهزا أو لا ينهرا الدم. والأشبه: أن ذلك لما علم - صلى الله عليه وسلم - من شأنهما، لما كان فعلهما فعل المعراض بعرضه، هذا هو المعروف من [ ص: 1528 ] فعلهما. فإن قدر أن فعلا فعل الحديد أو غيره مما يجهز; أكل ما ذكي بهما، ولا فرق بين العظم والسن; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما السن فعظم" . فجعل العلة كونه عظما، فوجب أن يجري العظم في الحكم حكم السن، ولا ينبغي أن يذكى بغير الحديد، إلا عند عدمه لحديث أوس - رضي الله عنه - : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" أخرجه مسلم . فإن فعل وذبح بغير الحديد مع وجوده أجزأ .

ويكره أن يحد المدية بحضرة الشاة، وأن يذبح واحدة وأخرى تنظر.

وفي كتاب محمد ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحد الشفار، وتوارى عن البهائم .

وقال مالك : رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلا يحد شفرته، وقد أخذ شاة ليذبحها، فضربه عمر بالدرة، وقال: أتعذب الروح، ألا فعلت هذا قبل أن [ ص: 1529 ] تأخذها . وكره أن تذبح الشاة، وأخرى تنظر . وفي كتاب محمد : عن نوف أن صديقا أو نبيا ذبح عجلا بين يدي أمه، قال: فخبل، فبينما هو تحت شجرة، وفيها وكر فيه فرخ، فوقع الفرخ منه إلى الأرض، ففغر فاه، وجعل يصيح، فرحمه، وأخذه، فأعاده في وكره فرد الله إليه عقله".

وإذا منع أن يحد الشفرة ; بحضرة الشاة فأحرى أن يمنع من ذبح واحدة بحضرة أخرى. قال محمد : ويأخذ الجزرة أخذا رفيقا بغير عنف، ويضجعها على شقها الأيسر متوجها بها إلى القبلة، ورأسها مشرف، ويأخذ بيده اليسرى الجلد الذي تحت حلقها من اللحي الأسفل، فيجزها; حتى يتبين له موضع السكين في الذبح، ثم يمر السكين مرا مجهزا من غير ترديد، ولا ينخع ، ويقول: بسم الله، والله أكبر. وإن كانت أضحية; فأحب إلي أن يقول: ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم. [ ص: 1530 ]

قال ابن القاسم : وإن كان أعسر; فلا بأس أن يضجعها على شقها الأيمن . وقال ابن حبيب : ويكره للأعسر أن يذبح، فإن فعل واستمكن ; أكلت ويستقبل بالذبيحة القبلة، ونهى مالك الجزارين أن يدوروا بالحفرة للذبح، وأمرهم أن يستقبلوا القبلة .

واختلف إذا ذبح لغير القبلة، فقال ابن القاسم : تؤكل، وبئس ما صنع . وقال محمد : إن كان ساهيا أكلت، وإن كان متعمدا; فلا أحب أن تؤكل. وقال ابن حبيب : إن تعمد ولم يجهل مكروه ذلك; حرم أكلها . وكذلك قال مالك ، ورواه ابن وهب عن الشعبي وابن شهاب، قال: وقد نحى بذبحه منحى الذبح لغير الله. ومن لم يسم الله -عز وجل- عند الذكاة، فإن كان سهوا; أكلت.

واختلف في المتعمد: فقال مالك وابن القاسم في المدونة: لا تؤكل. وقال ابن القاسم : والصيد عندي مثله . وحكى ابن القصار عن الشيخ أبي بكر الأبهري وابن الجهم : أنهما حملا قول مالك في منع الأكل على وجه الكراهية [ ص: 1531 ] والتنزه. وفي شرح ابن مزين عن عيسى وأصبغ : أنها حرام، لا يحل أكلها. وقال أشهب في كتاب محمد : إن لم يكن استخفافا أكلت .

قال الشيخ - رضي الله عنه -: الأصل في التسمية قول الله -عز وجل-: فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها [الحج: 36] ، فأمر بالتسمية عند النحر.

والوجوب: سقوطها إلى الأرض عند النحر،; لأن السنة في الإبل أن تنحر قياما، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم - رضي الله عنه -: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وسميت الله فكل، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل، فإنما سميت الله على كلابك ولم تسم على غيرها" .

فجعل عدم التسمية تمنع الأكل، وكذلك قول الله -عز وجل-: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه [الأنعام: 118] ، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [الأنعام: 121] ، فأباح الأكل بوجود التسمية، ومنع بعدمها. فأخبر الله -عز وجل- أن الوجه في الجواز لأكل ذبيحة المسلم؛ لأنه يسمي، والمنع لذكاة المجوسي; لأنه لا يسمي.

فنص أن الجواز والمنع لأجل التسمية، ليس لأجل الدين. فإن قيل: إنه لا تؤكل ذبيحة المجوسي، وإن سمى; قيل: قد أخبر الله -عز وجل- في هذه الآية: أن المنع لأجل عدم التسمية; لأن ذلك شأنهم، وأخبر في آية أخرى أنه لا تؤكل [ ص: 1532 ] ذبيحته لأجل دينه لقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم [المائدة: 5] ، فحمل أهل العلم أن ما عداهم -وهم المجوس- بخلافهم، وأنه لا تؤكل ذبيحتهم، فإذا كان المنع في مسألة لعلتين; جاز أن يحتج بإحداهما، ويسكت عن الأخرى. [ ص: 1533 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية