إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه ، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه ؛ اشتغالا بعظمة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم : لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه وكان إبراهيم الخليل إذا قام إلى الصلاة يسمع وجيب قلبه على ميلين .

وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته .

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ويروى أن الحسن نظر إلى رجل يعبث بالحصى ويقول : اللهم زوجني الحور العين فقال : بئس الخاطب أنت ، تخطب الحور العين وأنت تعبث بالحصى .

؟ وقيل لخلف بن أيوب ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها ؟ قال : لا أعود نفسي شيئا يفسد علي صلاتي قيل له : وكيف تصبر على ذلك ؟ قال : بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان ليقال فلان صبور ويفتخرون بذلك ، فأنا قائم بين يدي ربي ، أفأتحرك لذبابة ؟ ويروى عن مسلم بن يسار أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله : تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم .

ويروى عنه أنه كان يصلي يوما في جامع البصرة ، فسقطت ناحية من المسجد ، فاجتمع الناس لذلك ، فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة .

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه فقيل له مالك : يا أمير المؤمنين ؟ فيقول : جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها .


(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه؛ اشتغالا بعظمة الله عز وجل) . قال العراقي: رواه الأزدي في الضعفاء من حديث سويد بن غفلة مرسلا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سمع الأذان كأنه لا يعرف أحدا من الناس". (وقال صلى الله عليه وسلم: لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر) ، بضم المثناة التحتية وكسر ثالثه (الرجل فيها قلبه مع بدنه) . قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ، وروى محمد بن نصر في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرس مرسلا: "لا يقبل الله من عبده عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه". ورواه أبو منصور الديلمي في مسند "الفردوس" من حديث أبي بن كعب، وإسناده ضعيف، (وكان) سيدنا (إبراهيم الخليل) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم (إذا قام إلى الصلاة يسمع وجيب) أي: صوت سقوط (قلبه) على مسافة (ميلين) ، وهو في كتاب "العوارف" للسهروردي بلفظ: "كان يسمع خفقان قلبه من ميل". قال: وروت عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع من صدره أزيز كأزيز المرجل، حتى كان يسمع في بعض سكك المدينة"، (وكان سعيد) ابن عبد العزيز بن أبي يحيى (التنوخي) أبو محمد الدمشقي، فقيه أهل الشام ومفتيهم بدمشق بعد الأوزاعي، وقال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك بن أنس لأهل المدينة في التقدم والفضل والفقه والأمانة، توفي سنة 168، روى له الجماعة إلا البخاري . (إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته) ، وأسند المزني في "التهذيب" إلى أبي النضر إسحاق بن إبراهيم قال: كنت أرى سعيدا مستقبل القبلة يصلي، فكنت أسمع لدموعه وقعا على الحصير، وأسند عن أبي عبد الرحمن مروان بن محمد الأسدي: قلت لسعيد: يا أبا محمد، ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا بن أخي، وما سؤالك عن ذلك؟ قلت: لعل الله عز وجل أن ينفعني به، قال: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم .

(ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) . قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، والمعروف أنه من قول سعيد بن المسيب، رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وفيه رجل لم يسم، اهـ .

قلت: وهكذا هو في "القوت" في باب هيآت الصلاة وآدابها عند قوله: "ولا يعبث بشيء من بدنه في الصلاة". قال: روي أن سعيد بن المسيب نظر إلى رجل...فساقه سواء، ثم قال: وقد رويناه مسندا من طريق، (ويروى أن الحسن) هو البصري (نظر [ ص: 24 ] إلى رجل يعبث بالحصا) ، أي: في الصلاة، (ويقول: اللهم زوجني الحور العين فقال:) له الحسن (بئس الخاطب أنت، تخطب الحور العين وأنت تعبث؟) .

وفي رواية: "نعمت الخطبة وبئس المهر". (وقيل لخلف بن أيوب) العامري البلخي الفقيه، ثقة، قال الحاكم: كان مفتي بلخ وزاهدها، زاره صاحب بلخ فأعرض عنه، توفي سنة 209، روى له ابن ماجه، (ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها؟) بيدك (قال: لا أعود نفسي شيئا يفسد علي صلاتي) ، فإن الحركات المتوالية مضرة في الصلاة، (قيل له: وكيف تصبر على ذلك؟ قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان ليقال فلان صبور ويفتخرون بذلك، فأنا قائم بين يدي ربي، أفأتحرك لذبابة؟) ، وهذا يثمره الخشوع والخوف ومراقبة جلال الله وعظمته، وقد وقع مثل ذلك لإمام المدينة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لسعته زنبور كذا وكذا مرة، وهو يقرأ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتحرك ولم يتململ تأدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما وقع لي أني خرجت مع بعض الصالحين لزيارة بعض الأولياء، وفي الرجوع مررنا على موضع فيه الخضرة والماء الجاري والزهور والرياحين، وهو على خليج من خلجان البحر ليس به ماء، والموضع مشهور بكثرة البعوض المعروف بالناموس، وهي هذه الدويبة اللساعة، بحيث لا يمكن الإنسان أن يصبر إلا أن يلتف بثوب وبيده مذبة، وكان إذ ذاك به رجل من الصالحين قصدنا زيارته، فسألت صاحبي الذي أنا معه عن حال ذلك الرجل الصالح، كيف يفعل إذا وقف في الصلاة، وهو قد يطيل فيها من هذه الدواب المؤذية، قال: قد سبق لي السؤال عنه فقال لي: يا أخي أنا إذا وقفت في الصلاة أذكر نفسي كأني على الصراط، وكأن جهنم بين يدي، فلا يخطر ببالي الناموس ولا غيره، وهذه الحالة تحصل من الخشوع والمهابة، (ويروى عن مسلم بن يسار) البصري الزاهد الفقيه، أبي عبد الله مولى قريش، كان من الفقهاء العاملين والأولياء الصالحين، وروى عن ابن عباس وابن عمر ، وعنه محمد بن واسع وغيره، له ذكر في كتاب اللباس من صحيح مسلم، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، مات سنة مائة، (أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله: تحدثوا فإني لست أسمعكم) ، ونص "القوت": "كان إذا دخل في الصلاة يقول لأهله: تحدثوا بما تريدون، وأفشوا سركم فإني لا أسمع" .

وأخرج صاحب "الحلية" من طريق معتمر قال: بلغني أن مسلما كان يقول لأهله: إذا كان لكم حاجة فتكلموا وأنا أصلي. ومن طريق هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا، فلست أسمع حديثكم. ومن طريق ابن المبارك عن جبير بن حبان قال: ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في صلاته، فقال: وما يدريكم أين قلبي؟ ومن طريق معتمر : سمعت كهمسا يحدث عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه أنه كان يصلي ذات يوم، فدخل رجل من أهل الشام ففزعوا، واجتمع له أهل الدار، فلما انصرف قالت له أم عبد الله: دخل هذا الشامي، ففزع أهل الدار، فلم تنصرف، قال: ما شعرت. وبهذا الإسناد قال: ما رأيته يصلي قط إلا ظننت أنه مريض.

ومن طريق عفان عن سليمان بن مغيرة عن غيلان بن جرير قال: كان مسلم إذا رئي يصلي كأنه ثوب ملقى. ومن طريق زيد بن الحباب عن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار، قال: كان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكنت أهل البيت، فلا يسمع لهم كلام، وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا. ومن طريق معاذ بن معاذ عن ابن عون قال: رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد لا يميل على قدم مرة، ولا على قدم مرة، ولا يحرك له ثوبا، وقال معاذ مرة: لا يتروح على رجل مرة، أو قال: يعتمد. ومن طريق ابن المبارك عن سفيان عن رجل عن مسلم بن يسار أنه سجد سجدة، فوقعت ثنيتاه. ومن طريق أبي إياس معاوية بن قرة قال: كان مسلم بن يسار يطيل السجود، أراه قال: فوقع الدم في ثنيتيه فسقطتا فدفنهما .

(ويروى عنه أنه كان يصلي يوما في جامع البصرة، فسقطت ناحية من المسجد، فاجتمع الناس لذلك، فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة) ، ونص "القوت": "وكان يصلي ذات يوم في جامع البصرة، فوقعت خلفه أسطوانة معقود بناؤها على أربع طاقات، فتسامع بها أهل السوق، فدخلوا المسجد وهو قائم [ ص: 25 ] يصلي كأنه وتد، فانفتل من صلاته، فلما فرغ جاءه الناس يهنئونه، فقال: وعلى أي شيء تهنئوني، قالوا: وقعت هذه الأسطوانة العظيمة وراءك، فسلمت منها، فقال: متى وقعت؟ قالوا: وأنت تصلي، قال: فإني ما شعرت بها، وأخرج صاحب "الحلية" من طريق عون بن موسى قال: سقط حائط المسجد ومسلم بن يسار قائم يصلي فما علم به. ومن طريق مبارك بن فضالة عن ميمون بن بيان قال: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاته قط، خفيفة ولا طويلة، ولقد انهدمت ناحية من المسجد، ففزع أهل السوق لهدته، وإنه لفي المسجد في الصلاة فما التفت، وكان أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه (إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل) أي: يرتعد بدنه (ويتلون) أي: يحمر ويصفر، (فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول:) لهم (جاء وقت) أداء (أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) ، وهي الصلاة في أحد الوجوه المذكورة في الآية في تفسير الأمانة .

التالي السابق


الخدمات العلمية