وأما الهيبة فزائدة على التعظيم بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم ؛ لأن من لا يخاف لا يسمى هائبا والمخافة من العقرب ، وسوء خلق العبد ، وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة ، بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة والهيبة خوف مصدرها الإجلال .
ثم قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأما التعظيم) ، وهي الجملة الثالثة، (فهو أمر وراء حضور القلب والفهم، إذ الرجل) يتفق له أنه (يخاطب غيره بكلام هو حاضر القلب فيه) ، بكليته، (ومتفهم لمعناه) وما يريد به من فحواه، (ولا يكون معظما له، فالتعظيم) على هذا أمر (زائد عليهما) ، ولا بد منه في مناجاة الحق سبحانه؛ إذ لا ثمرة في الحضور والتفهم بدونه، والمراد منه ملاحظة عظمته وجلاله، وأنه معظم في نفسه عظم نفسه بنفسه، ويلاحظ تعاليه وتقدسه عن مشابهة المخلوقين، (وأما الهيبة) ، وهي الجملة الرابعة (فزائدة على التعظيم) ، لا يقال: هما مترادفان لغة، يقال: هابه إذا عظمه في عينه، (بل هي عبارة عن خوف) يعرض في القلب (منشأه التعظيم؛ لأن من لا يخاف لا يسمى هائبا) ، ولذلك يستعمل في كل محتشم، ومنه قول الشاعر:
أهابك إجلالا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها
ومنه ما ورد في شمائله -صلى الله عليه وسلم- من رآه فجأة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه .
"اعلم أنه قد تتوارد ألفاظ مختلفة ويظن أنها مترادفة، وليس كذلك، فمن ذلك: الجزع، والفزع، والخوف، والخشية، والوجل [ ص: 121 ] والرهبة، والهيبة، ويلحق ذلك أيضا: الحياء، والخجل، والذعر، والفرق، والإشفاق، فهي اثنا عشر جملة، ولا بد من التفصيل في الفرق فيها ليتبين مقصود المصنف في اختيار لفظ الهيبة دونها، فالفزع ما يعتري من الشيء المخيف، والجزع ما يعتري من الشيء المؤلم، ومتى ما كان الفزع عارضا عن أمارة كالعار فهو الحياء والخجل، وسيأتي الكلام على الحياء قريبا، ومتى كان من شيء يضر فهو الفرق والذعر، ومتى ما كان لفوت محبوب فهو الإشفاق .
وأما الخوف فهو توقع مكروه عن أمارة، والخشية خوف يشعر به تعظيم المخشي مع المعرفة، والوجل استشعار عن خاطر غير ظاهر، ليس له أمارة، والرهبة خوف مع تحرز واضطراب ولتضمن الاحتراز، قال الله تعالى: وإياي فارهبون ، والهيبة هيئة جالبة للخضوع عن استشعار تعظيم، وهذه الأشياء قد تذم باعتبار الأمور الدنيوية، وتحمد باعتبار الأمور الأخروية، والخوف من الله تعالى ليس يشار به إلى ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الإنسان الرعب من الأسد، وإنما يشار به إلى ما يقتضيه الخوف، وهو الكف عن المعاصي، ولذلك قيل: لا تعدن خائفا من لا يترك المعاصي، وإلى هذا أشار المصنف بضرب من الخطاب .
(والمخافة من العقرب، وسوء خلق العبد، وما يجري مجرى ذلك من الأسباب الخسيسة لا يسمى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظم) ، الموصوف بنعت العظمة (يسمى مهابة) لما فيه من استشعار العظمة، (فالهيبة) إذا (خوف مصدره الإجلال) ، أي: هو أثر مشاهدة إجلال الله تعالى في القلب، وقد يكون أثرا عن الجمال الذي هو جمال الإجلال فيلازمه الأنس، إلا أن الهيبة مقتضاها الغيبة، والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة، وأقرب الألفاظ مناسبة للمقام لفظ الخشية، فإن أركانها ثلاثة: الخوف والتعظيم والمعرفة، وإنما اختار المصنف الهيبة عليها؛ لأن الخشية مقام العلماء بالله خاصة، ولأن ما ذكر في الخشية موجود في الهيبة باعتبار أن التفهم قد تقدمها، فصارت الهيبة واردة عليه، فلو ذكر الخشية كان فهم المعرفة فيها، كالتكرار مع ما تقدم من التفهم، وأيضا ففي الهيبة معنى زائد ليس في الخشية، وهو كونه أثر مشاهدة الجلال وملازمة الأنس له عند الكمال، فتأمل، والله أعلم .