وإخلاص جميع ذلك لوجه الله سبحانه رجاء لثوابه وخوفا من عقابه وطلبا للقربة منه متقلدا للمنة منه بإذنه إياك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة عصيانك وعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي وكيف تناجي وبماذا تناجي وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفر وجهك من الخوف .
وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه ، فالله يشهد إنك لكاذب وإن كان الكلام صدقا كما شهد على المنافقين في قولهم أنه صلى الله عليه وسلم رسول الله .
فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل فأنت أطوع له منك لله تعالى ، فقد اتخذته إلهك وكبرته فيوشك أن يكون قولك : الله أكبر كلاما باللسان المجرد ، وقد تخلف القلب عن مساعدته وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه .
وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر ، فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه .
وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السماوات والأرض فانظر إليه أمتوجه هو إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق ومتبع للشهوات أو مقبل على فاطر السموات وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب والاختلاق .
ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه فاجتهد في الحال في صرفه إليه وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقا .
وإذا قلت حنيفا مسلما فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده .
ثم قال المصنف: (وإخلاص جميع ذلك) هو معطوف على ما قبله، أي: فاعزم على أن يكون كل ما ذكر من المأمورات والمنهيات والمصححات والمفسدات بشرط الإخلاص فيها خاصة (لوجه الله سبحانه رجاء لثوابه) الموعود به (وخوفا من عقابه) الوارد فيه (وطلبا للقربة منه) تعالى، فالأول وهو رجاء الثواب وخوف العقاب من صفات المؤمنين المقربين، والثاني وهو طلب القربة وصف الخاشعين من المصلين حالة كونه (متقلدا المنة) في عنقه (بإذنه لك في المناجاة) وتقريبه في المخاطبة (مع سوء أدبك) في حضرة الحق تعالى (وكثرة عصيانك) وتوالي مخالفاتك (وعظم في نفسك) بالتصور (قدر مناجاته) فإنه مقام لا أشرف منه بأن يرفع الحجاب من البين ويؤذن له بمشاهدة العين (وانظر) بعين قلبك (من تناجي) ومن تخاطب وتسارر (وكيف تناجي وبماذا تناجي) ، فالنظر في هذه الثلاثة من آكد المؤكدات (وعند هذا) المقام (ينبغي أن يعرق جبينك) أي: جبهتك فقد يطلق الجبين ويراد به إياها، أو المراد به الجبين حقيقة، ولكل إنسان جبينان وجبهة كما تقدم، وإنما خص الجبين بالعرق؛ لأنه لا يعرق إلا في شدة، ومن هنا قولهم حصلته بعرق الجبين، أي: بشدة، وقد يعرق جبين الميت عند خروج روحه، ومن هنا قولهم: وارحمنا إذا عرق منا الجبين (من الخجل) وهو محركة حيرة النفس لفرط الحياء (وترتعد) أي: ترتعش (فرائصك) جمع فريصة، وهي البوادر التي على يمين القلب ويساره (من الهيبة) ويعرض ذلك في شدة الخوف، ولذا قالوا: الشجاع لا ترتعد فرائصه في الحرب، وكان عنترة العبسي كذلك (ويصفر وجهك من الخوف) والصفرة لا تعتري دائما إلا عند الخجل، وقد تعتري عند الخوف أيضا، وهذه الأوصاف ذكرت في حق علي بن الحسين بن علي كان إذا قام إلى صلاته تتغير عليه الأحوال، كما تقدمت الإشارة إليه، وفي بعض النسخ وتصفق بدل ترتعد، أي: يصفق بعضها بعضا، وفي أخرى ويشحب قبل ويصفر، والمعنى يتغير، يقال: شحب لونه إذا تغير عن مرض، وهو شاحب اللون كاسفه، (وأما التكبير) الأول (فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك) ، بل يواطئه فيما يقول ولا يتم هذا إلا إن كان همه معلقا بمعاني المناجاة، فإذا قال: الله أكبر، لا يكون في قلبه أكبر من الله تعالى إن عقل ما يقول؛ لأن معنى قوله: الله أكبر، أي: أكبر مما سواه، ولا يقال: أكبر من صغير، وإنما يقال: أكبر من كبير، فيقال: هذا كبير، وهذا أكبر، فإن كان همه الملك الكبير كان ذكر الله أكبر في قلبه، فيواطئ قلبه قول مولاه في قوله، ولذكر الله أكبر [ ص: 142 ] ويواطئ لسانه قلبه في مشاهدة الأكبر، فيكون ممن يتلو وينظر، فإن الله تعالى قدم العين على اللسان في قوله: ألم نجعل له عينين ولسانا ، فلا يقدم لسانه ويؤخر بصره، وينبغي أن يكون عقده محققا لمقاله بالوصف حتى يكون عاملا بما يقول في الحال، فقد أخذ ذلك عليه لما أمر به حجة عليه، وتنبيها له، ولا يكون بقوله: الله أكبر حاكيا ذلك عن قول غيره، ولا مخبرا به عمن سواه، بل يكون هو المتحقق بالمعنى القائم بالشهادة، وهذا عند أهل المعرفة واجب؛ لأن الإيمان قول وعمل في كل شيء، فإذا قلت: الله أكبر، فإن العمل بالقول أن يكون الله تعالى أكبر في قلبك من كل شيء، وإليه أشار المصنف بقوله: (فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه، فالله يشهد إنك لكاذب) في قولك هذا (وإن كان الكلام) في حد ذاته (صدقا كما شهد على المنافقين في قولهم أنه -صلى الله عليه وسلم- رسول الله) ، فقال: والله يشهد إنهم لكاذبون ، ثم إن هذا لم يأت إلا بالقول دون العمل، وليس هذا حقيقة الإيمان؛ لأنه لم يأت بعمل، وإنما جاء بالقول، وهذا قائم بنفس مشاهد للدنيا فهو عبد نفسه، فلذلك كانت قرة عينه شهوة نفسه، ولو كان عبد ربه كانت مشاهدته الآخرة، وكانت قرة عينه الآخرة، وإليه أشار المصنف بقوله: (فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله -عز وجل- وأنت أطوع له) ، أي: لهواك (منك لله تعالى، فقد اتخذته إلهك وكبرته) إشارة إلى قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، (فيوشك أن يكون قولك: الله أكبر كلاما باللسان المجرد، وقد تخلف القلب عن مساعدته) ، فكان قولا بلا عمل، فلم يتم لك حقيقة الإيمان (وما أعظم الخطر في ذلك) ، وما أصعبه (لولا التوبة) الصادقة (والاستغفار وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه) ، وإلى هذا الإشارة في قول الله تعالى: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، فالعهد ما أعطيت بلسانك، والرعاية الوفاء بالقلب، فمن طابق قلبه لسانه دخل تحت هذا الثناء والمدح (وأما دعاء الاستفتاح) ، أي: الدعاء الذي يستفتح به الصلاة بعد أن يكبر (فأول كلماته وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) ، أي: خلقهن (وليس المراد بالوجه) فيه (الوجه الظاهر، فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة) وصرفته عن غيرها (والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات) ويتعالى عن ذلك كما بين في محله، وهذه عقيدة أهل السنة (حتى تقبل بوجه بدنك عليه، وإنما وجه القلب) الذي هو الوجه الباطن (هو الذي تتوجه به) بكليته (إلى فاطر السموات والأرض) ، كما أن الوجه الظاهر تتوجه به إلى جهة القبلة (فانظر إليه) ، أي: إلى وجه القلب (أمتوجه إلى أمانيه) التي سول بها الشيطان (وهمومه) الكائنة (في البيت) عند ماله وزوجته وعياله (والسوق) عند أمتعته والربح في معاملاته (متبع للشهوات) الكاذبة، (أو مقبل على فاطر) الأرض (والسموات) يظهر لك الفرق، والاعتبار في التوجه أن العالم بالله من المناجين يقول: وجهت وجهي، ووجه الشيء ذاته وحقيقته، أي: نصبت ذاتي قائمة كما أمرتني للذي فطر السموات والأرض، والنظر فيه إلى قوله تعالى: ففتقناهما أي: الذي ميز ظاهري من باطني وغيبي من شهادتي، وفصل بين القوى الروحانية في ذاتي، كما فصل السموات بعضها عن بعض بما أوحى في كل سماء بما جعل في كل قوة من قوى سمواتي والأرض، ففصل بين جوارحي فجعل للعين حكما وللأذن حكما، ولسائر الحواس حكما، وهو قوله: وقدر فيها أقواتها ، وهو ما يتغذى به العقل الإنساني من العلوم التي تعطيه الحواس بما يركبه الفكر من ذلك لمعرفة الله ومعرفة ما أمره الله بالمعرفة به، فهذا وما يناسبه ينظر العالم بالله في التوجه بقوله: فطر السماوات والأرض ، وهو بحر واسع ولا بد للعلماء بالله من معرفته في التوجه، وكل يفهم على قدر قربه ومقامه عند الله تعالى (وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة) مع الله تعالى (بالكذب والاختلاق) عطف تفسير، وللسائل أن يقول: فكيف انصراف الوجه إلى الله تعالى؟ فأجاب المصنف بقوله: (ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه) ، بات لا يخطر فيه خاطر لغيره (فاجتهد في الحال في صرفه إليه) ، وأدم هذا التصور في القلب إلى آخر العمل [ ص: 143 ] حتى يتم (وإن عجزت عنه على الدوام) ، أي: إلى آخر العمل، (فليكن قولك في الحال صادقا) ، وهو أقل المراتب، وهذا القدر هو الذي أفتى به علماء الظاهر نظرا إلى الوسع والطاقة والإمكان، (وإذا قلت حنيفا مسلما كما في بعض الروايات فينبغي أن يخطر) حينئذ (ببالك أن) الحنيف هو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، فإن لم تكن مائلا إلى الحق ظاهرا وباطنا كنت كاذبا في قولك، وإن (المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده) ، كما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة: nindex.php?page=hadith&LINKID=656437 "وإن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه". رواه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود. وعن سويد بن حنظلة: nindex.php?page=hadith&LINKID=664222 "وإن المسلم مرآة المسلم، فإذا رأى به شيئا، فليأخذه" رواه nindex.php?page=showalam&ids=12289ابن منيع عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة.