وإذا قلت محياي : ومماتي لله فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده وأنه إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ، ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائما للحال .
(فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا) في قولك (فاجتهد أن تعزم عليه في الاستقبال، وتندم على ما سبق من) التقصير في (الأحوال) في أداء حق الإسلام، (وإذا قلت: وما أنا من المشركين) فاعلم أن الشرك على قسمين: جلي وخفي، فالجلي عبادة الأوثان، والنجوم وغيرها من دون الله تعالى، وقد صان الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلا يخطر هذا بباله مطلقا، وإنما الكلام على القسم الثاني (فأخطر ببالك الشرك الخفي) الذي هو أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، والإشارة في ذلك أن الحنف هو الميل كما تقدم، والإسلام هو الانقياد، فلما أثبت له الوصفين صح له أن يقول مائلا منقادا إلى جناب الحق من إمكاني إلى وجوب وجودي بربي، فيصح لي التنزه عن العدم، فأبقى في الخير المحض وما أنا في هذا الميل من المشركين .
يقول: ما علمت بأمري، وإنما الحق علمني كيف أتوجه إليه، وبماذا أتوجه إليه، وعلى أي حالة أكون في التوجه إليه، فافهم هذه الإشارة ولا تتعلق بظاهر العبارة، ثم أشار إلى نفي الشرك الخفي بقوله: (فإن قوله تعالى) في آخر سورة الكهف ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) ، قال nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : ثواب ربه، وقال nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير: من كان يخشى البعث في الآخرة، قلت: وهذا يؤيد ما تقدم أن الرجاء قد يستعمل بمعنى الخوف، وعليه حمل قوله تعالى: ما لكم لا ترجون لله وقارا ( فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، أنزل فيمن يقصد بعبادته وجه الله -عز وجل- وحمد الناس) ، أخرج nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم عن كثير بن زياد قال: قلت للحسن: قول الله تعالى: فمن كان يرجو ، الآية قال: في المؤمن نزلت .
قلت: أشرك بالله، قال: لا، ولكن أشرك بذلك العمل عمل عملا يريد الله والناس، فذلك يرد الله عليه .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=17259هناد في الزهد عن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله، وأحب أن يقال لي خير، فنزلت هذه الآية". قال: ولا يشرك، أي: لا يرائي بعبادة ربه أحدا، وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=12455وابن أبي الدنيا في الإخلاص nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم عن nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس قال: قال رجل: "يا نبي الله إني أقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية". وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم وصححه، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي موصولا عن nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، وقد وقع مصرحا في حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من روايات أخر أن هذا الرجل الذي نزلت فيه هو جندب بن زهير، وهكذا هو عند nindex.php?page=showalam&ids=13563ابن منده، nindex.php?page=showalam&ids=12181وأبي نعيم في الصحابة، nindex.php?page=showalam&ids=13359وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي عن أبي صالح، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ولفظهم: فلما كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس؛ ولأنه ندبه الله فنزل في ذلك قوله: فمن كان يرجو ، الآية، وقال nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير في قوله: ولا يشرك، أي: لا يرد بعمله أحدا من خلقه .
وأما قوله: ومحياي ومماتي لله، (فاعلم أن هذا حال مفقود لنفسه) لا يغيب عن ربه طرفة عين بل مداوم على مراقبته (موجود لسيده) فإن من فني عن نفسه بقي بالله، ومن راقب على قلبه بوحدانية الله تعالى وطرد ما سواه، وجد الله وإحسانه، وحينئذ يفوز بعلم اليقين، وهو أن يرى حياته وموته به وله، وأنه هو المحيي وهو المميت، ثم يزيد حضورا إلى أن يترقى إلى عين اليقين، ثم يزيد استغراقا بدرجة إلى حق اليقين ثم يفنى عن ذلك به، وذلك حقيقة اليقين .
(و) ليعلم (أنه) أي: هذا الكلام (إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة، ورهبته من الموت لأمور الدنيا) ، أي: لغرض من أغراضها المتعلقة بأمورها (لم يكن ملائما) ، أي: مناسبا (للحال) الذي هو فيه، فالفاني عن نفسه، والباقي بالله هو الذي محياه ومماته لله، وفي إضافة هذه الأمور إلى نفسه إشارة إلى أنه ما ظهرت هذه الأفعال، ولا يصح أن تظهر إلا بوجود العبد إذ يستحيل على الحق إضافة هذه الأشياء إليه بغير حكم الإيجاد فتضاف إلى الحق من حيث إيجاد أعيانها، كما تضاف إلى العبد من كونه محلا لظهور أعيانها فيه، فهو المصلي، فاعلم ذلك حتى تعرف ما تضيفه إلى نفسك مما لا يصح أن تضيفه إلى ربك عقلا، وتضيف إلى ربك ما لا يصح أن تضيفه إلى نفسك شرعا، والمعنى أن صلاتي وعبادتي وحالة حياتي ومماتي لله، أي: إيجاد ذلك كله لله لا لي، أي: ظهور ذلك في من أجل الله لا من أجل ما يعود علي في ذلك من الخير، فالعالم من عبد الله وغير العالم يعبده لما يرجوه من حظوظ نفسه في تلك العبادة، فلهذا شرع لنا أن نقول: لله رب العالمين، والله أعلم .
وقال المصنف في المقصد الأسنى في شرح اسمه تعالى الوهاب ما نصه: لا يتصور من العبد الجود والهبة، فإنه ما لم يكن الفعل أولى به من الترك لم يقدم عليه، فيكون إقدامه عليه لغرض نفسه، ولكن الذي يبذل جميع ما يملكه حتى الروح لوجه الله تعالى فقط لا للوصول إلى نعيم الجنة، أو الحذر من عذاب النار، أو لحظ عاجل أو آجل مما يعد من حظوظ البشرية فهو جدير بأن يسمى وهابا وجوادا ودونه الذي يجود لينال نعيم الجنة، ودونه الذي يجود لينال حسن الأحدوثة، وكل من لم يطلب عوضا يتناوله سمي جوادا عند من يظن أنه لا عوض إلا الأعيان، فإن قلت: فالذي يجود بكل ما يملك خالصا لوجه الله تعالى من غير توقع حظ عاجل أو آجل كيف لا يكون جوادا، ولا حظ له فيه أصلا قلت: حظه هو الله تعالى ورضاه ولقاؤه، والوصول إليه، وذلك هو السعادة التي يكسبها الإنسان بأفعاله الاختيارية وهو الحظ الذي يستحقر سائر الحظوظ في مقابلته .
فإن قلت: فما معنى قولهم: إن العارف بالله تعالى هو الذي يعبد الله خالصا لا لحظ وراءه، فإن كان لا يخلو فعل العبد عن حظ فما الفرق بين من يعبد الله خالصا، وبين من يعبده لحظ من الحظوظ، فاعلم أن الحظ عبارة عند الجماهير عن الأغراض المشهورة عندهم، ومن تنزه عنها ولم يبق له مقصد إلا الله فيقال: إنه قد تبرأ من الحظوظ، أي: عما يعده الناس حظا، وهو كقولهم: إن العبد يراعي سيده لا لسيده ولكن لحظ يناله بخدمته، وأما الوالد فإنه يراعي ولده لذاته لا لحظ يناله منه، بل لو لم يكن منه حظ أصلا لكان معتنيا بمراعاته، ومن طلب شيئا لغيره لا لذاته فكأنه لم يطلب فإنه ليس هو غاية طلبه، بل غاية طلبه غيره، فمن يعبد الله للجنة فقد جعل الله واسطة طلبه [ ص: 145 ] ولم يجعله غاية مطلبه، وعلامة الواسطة أنه لو حصلت الغاية دونها لم تطلب الواسطة، فلو حصلت الجنة لمن يعبد الله تعالى لأجلها دون عبادة الله تعالى لما عبد الله تعالى، فمحبوبه ومطلوبه الجنة، إذا لا غير .
وأما من لم يكن له محبوب غير الله تعالى ولا مطلوب سواه، بل حظه الابتهاج بلقائه والقرب منه والمراقبة للملأ الأعلى من المقربين من حضرته، فيقال: إنه يعبد الله تعالى لله لا على معنى أنه غير طالب للحظ، بل على معنى أن الله تعالى هو حظه، وليس يبتغي وراءه عطاء، ومن لم يؤمن بلذة البهجة بلقاء الله ومعرفته والمشاهدة له والقرب منه لم يشتق إليه، ومن لم يشتق إليه لم يتصور أن يكون ذلك من حظه، فلم يتصور أن يكون ذلك مقصده أصلا، فكذلك لا يكون في عبادته إلا كالأجير السوء لا يعمل إلا بأجرة طمعا فيها، وأكثر الخلق لم يذوقوا هذه اللذة ولم يعرفوها ولا يفهمون لذة النظر إلى وجه الله تعالى، فإنما إيمانهم بذلك من حيث النطق باللسان، فأما بواطنهم فإنها مائلة إلى التلذذ بلقاء الحور العين وغيره في الجنة فقط، فافهم من هذا أن البراءة من الحظوظ محال إن كنت تجوز أن يكون الحظ هو الله تعالى، أي: لقاؤه ومشاهدته والقرب منه مما يسمى حظا، فإن كان الحظ عبارة عما تعرفه الجماهير، وتميل إليه فليس هذا حظا، وإن كان الحظ عبارة عما حصوله أولى من عدمه في حق العبد فهو حظ، والله أعلم اهـ .
"(تنبيه)
حال العبد المفقود لنفسه الموجود لسيده حال nindex.php?page=showalam&ids=12195أبي يزيد البسطامي قدس سره؛ حيث قال مشيرا إلى هذا المقام: انسلخت نفسي عن نفسي كما تنسلخ الحية عن جلدها، فنظرت فإذا أنا هو، والمعنى أنه انسلخ عن شهوات نفسه وهواها وهمها فلم يبق فيه متسع لغيره تعالى، ولم يكن همه سواه، فإذا لم يجد في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقا به يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقا، وفرق بين قولنا هو هو وبين قولنا كأنه هو، ولكن قد يعبر بقولنا: هو هو عن قولنا كأنه هو هو توسعا ومجازا، ومن ترقى بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات، وبالهمة عن الحظوظ والشهوات نال هذا المقام وصفا له، هذا المرام، ثم إذا قلت: لا شريك له وأنت تشرك معه في عبادته، فهو كذب آخر، والمعنى لا إله مقصود بهذه العبادة إلا الله الذي خلقني من أجلها، أي: لا أشرك فيها نفسي بما يخطر له من الثواب الذي وعد الله لمن هذه صفته، وقد ذهب بعضهم إلى الحضور مع الثواب في حال هذه العبادة، وكفر من لم يقل به، وهذا ليس بشيء، وهو من أكابر المتكلمين غير أنه لم يكن من العلماء بالله في طريق الأذواق، بل كان من أهل النظر الأكابر منهم، ولا يعتبر عند أهل الكشف ما يخالفهم فيه علماء الرسوم إلا في نقل الأحكام المشروعة، فإن فيها يتساوى الجميع، ويعتبر فيها المخالف بالقدح في الطريق الموصل أو في المفهوم باللسان العربي .
وأما في غير هذا، فلا يعتبر إلا مخالفة الجنس، وهذا سار في كل صنف من العلماء بعلم خاص، فافهم ذلك، وإذا قلت: وبذلك أمرت أي: بمجموع ما ذكر من توجيه وجه البدن والقلب للكعبة وربها وبالتحنف والإسلام وعدم التشريك معه في العبادة، وأنت في جميع ذلك عار عن الإخلاص غير مطابق قلبك مع بدنك، وإنما أمرت أن تعبد الله مخلصا له دينه، ففيه كذب آخر .
فإذا قلت: وأنا من المسلمين، فالمسملون عند شروطهم، فهل أنت تفي بتلك الشروط وتعرف حقوقهم التي أوجبها الله عليك، ولا بد أنك تقصر عن ذلك، فهذا كذب آخر، فإذا كان دعاء الاستفتاح مشتملا على عدة أكاذيب ومخالفات، فكيف حالك في سائر الصلاة، وما توفيقي إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله .