وينبغي أن يكون في سعيه إلى الجمعة خاشعا متواضعا ناويا للاعتكاف في المسجد إلى وقت الصلاة قاصدا للمبادرة إلى جواب نداء الله عز وجل إلى الجمعة إياه ، والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه وقد قال صلى الله عليه وسلم : من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية ، فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما أهدى دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما أهدى بيضة فإذا خرج الإمام طويت الصحف ، ورفعت الأقلام ، واجتمعت الملائكة عند المنبر يستمعون الذكر فمن جاء بعد ذلك فإنما ، جاء لحق الصلاة ، ليس له من الفضل شيء والساعة الأولى طلوع الشمس والثانية إلى ، ارتفاعها والثالثة إلى انبساطها حين ترمض الأقدام والرابعة ، والخامسة بعد الضحى الأعلى إلى الزوال وفضلهما ، قليل ، ووقت الزوال حق الصلاة ولا فضل فيه .
وقال صلى الله عليه وسلم : ثلاث لو يعلم الناس ما فيهن لركضوا ركض الإبل في طلبهن الأذان ، والصف الأول ، والغدو إلى الجمعة وقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رضي الله عنه أفضلهن الغدو إلى الجمعة .
(و) بالجملة، فإن (فضل البكور عظيم) دلت عليه الأخبار الصحيحة، مر بعضها، ويأتي بعضها (وينبغي أن يكون في سعيه) أي: مشيه على الأقدام كما هو المسنون في كل عبادة؛ كالعيد، والجنازة، وعيادة المريض، إلا أن تكون العيادة بسفر طويل كالحج، فالمختار أن الركوب فيه أفضل، وكذا إذا خاف من ازدحام، وبعد المسافة إلى الجمعة بحيث لو مشى على قدميه فات الوقت، أو لم يكن مطيقا على المشي الكثير (خاشعا متواضعا) ذا سكينة، ووقار، وإخبات، وافتقار، إلا إن ضاق الوقت فيسرع في المشي مكثرا من الدعاء، والابتهال، والاستغفار (ناويا) في خروجه زيارة مولاه في بيته، والتقرب إليه
[ ص: 256 ] بأداء فريضته، قاصدا (للاعتكاف في المسجد إلى) الفراغ من (الصلاة) ، وانقلابه منها، ناويا كف الجوارح عن اللهو واللغو، والشغل بخدمة مولاه - جل وعز - (قاصدا للمبادرة إلى جواب نداء الله إياه إلى الجمعة، والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه) لترك راحته في ذلك اليوم، ومهناه من عاجل حظ دنياه، وليكن ذلك في الساعة الأولى، فإن لم يفعل ففي الساعة الثانية، فإن لم يفعل، ففي الساعة الثالثة (وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى) أي: ذهب (فكأنما قرب بدنة) من الإبل ذكرا كان أم أنثى، والهاء للوحدة لا للتأنيث، أي: تصدق بها تقربا إلى الله تعالى (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة) ذكرا أو أنثى، والتاء للوحدة (ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن) ، وصفه به؛ لأنه أكمل، وأحسن صورة، ولأن قرنه ينتفع به (ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة) بتثليث الدال، والفتح هو الفصيح (ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما أهدى بيضة) ، والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ قرب، وإلا فالهدي لا يكون بها (فإذا خرج الإمام طويت الصحف، ورفعت الأقلام، واجتمعت الملائكة) الذين وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة (عند المنبر يستمعون الذكر) ؛ أي: الخطبة، والمراد بطي الصحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى أربعة دون غيرها من سماع الخطبة، وإدراك الصلاة، والذكر، والدعاء، ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا (فمن جاء بعد ذلك، فإنما جاء لحق الصلاة، ليس له من الفضل شيء) .
وفي القوت: ليس من الفضل في شيء، أي: لا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن التخلف بعد النداء حرام، ولأن ذكر الساعات إنما هو للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول في انتظارها، والاشتغال بالتنفل والذكر، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ثم إن هذا الحديث هكذا ساقه صاحب القوت بطوله في أول الباب، وقد أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري، nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، وليس فيه: ورفعت الأقلام، وهذه اللفظة عند nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري القطعة الأولى بسنده من طريق nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري، عن nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة، والأغر، عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، وقد علم من هذا التفصيل أن الذي أورده المصنف ملفق من الأحاديث، ثم اختلفوا في تحديد تلك الساعات، وإليه أشار المصنف بقوله: (والساعة الأولى) تكون بعد صلاة الصبح (إلى طلوع الشمس، و) الساعة (الثانية) تكون (عند ارتفاعها) ، وارتفاع النهار (و) الساعة (الثالثة) تكون (عند انبساطها) على الأرض، وهو الضحى الأعلى (حين ترمض الأقدام) بحر الشمس (و) الساعة (الرابعة، والخامسة) تكون (بعد الضحى الأعلى إلى الزوال، وفضلهما قليل، ووقت الزوال حق الصلاة ولا فضل فيه) ، ولفظ القوت: والساعة الرابعة تكون قبل الزوال، والساعة الخامسة إذا زالت الشمس، أو مع استوائها، وليست الساعة الرابعة والخامسة مستحبين للبكور، ولا فضل لمن صلى الجماعة بعد الساعة الخامسة؛ لأن الإمام يخرج في آخرها، فلا يبقى إلا فريضة الجمعة. اهـ .
(وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ثلاث) ؛ أي: ثلاث خصال (لو يعلم الناس ما فيهن) ، أي: من الفضل والثواب (لركضوا الإبل) ، أي: بالركوب عليها (في طلبهن) ، أي: تحصيلهن (الأذان، والصف الأول، والغدو إلى الجمعة) ، أي: البكور إليها .
قلت: وفي تاريخ nindex.php?page=showalam&ids=12938ابن النجار من حديثه بلفظ: ثلاث لو يعلم الناس ما فيهن ما أخذت إلا بسهمة حرصا على ما فيهن من الخير والبركة: التأذين بالصلاة، والتهجير بالجماعات، والصلاة في أول الصفوف.
(وقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى- في شرح هذا الحديث بعد أن رواه: (أفضلهن) ، أي: أفضل تلك الخصال (الغدو إلى الجمعة) ، أي: الذهاب إليها بكرة النهار .
الأولى: قوله في الحديث: الأول فالأول، تعلق به المالكية، فقالوا: الفاء تقتضي الترتيب بلا مهلة، فاقتضى تعقيب الثاني بالأول، وكذا من بعده، فلو كان اعتبار هذا من أول النهار، وتقسيمه على ست ساعات في النصف الأول من النهار لم يكن الآتي في أول ساعة يعقبه الآتي في أول التي تليها، وأجيب عنه أنه لا نزاع في أنهم يكتبون من جاء أولا، ومن جاء عقبه ... وهكذا، وهو إنما أتى بالفاء في كتابة الآتين، وأما مقدار الثواب، فلم يأت فيه بالفاء، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض: وأقوى معتمد nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في كراهية البكور إليها عمل أهل المدينة المتصل بترك ذلك، وسعيهم إليها قرب صلاتها، وهذا نقل معلوم غير منكر عندهم، ولا معمول بغيره، وما كان أهل عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدهم من ترك الأفضل إلى غيره، ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات، وذكر nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر أيضا أن عمل أهل المدينة يشهد له. اهـ .
قال العراقي: وما أدري أين العمل الذي يشهد له، nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر ينكر على عثمان -رضي الله عنهما- التخلف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يندب إلى التبكير في أحاديث كثيرة، وقد أنكر غير واحد من الأئمة على nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة، فقال الأثرم: قيل nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد: كان nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك يقول: لا ينبغي التهجير يوم الجمعة، فقال: هذا خلاف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: كالمهدي
[ ص: 258 ] جزورا؟ وأنكر على nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أيضا nindex.php?page=showalam&ids=13056ابن حبيب من أصحابه إنكارا بليغا، وقال: هذا تحريف في تأويل الحديث، ومحال من وجوه لم أذكر أنا ذلك لما فيه من التحامل على إمامه، وهو -رضي الله عنه- لم يكن غافلا في تأويله حاشاه من ذلك، ولم يثبت عنده في التبكير إلا بعد النداء، وشاهد من أهل المدينة العمل به؛ لقرب منازلهم في المسجد، فحمل الساعات على اللحظات، ولكل وجهة على أنه مجتهد لا يعارض بقول غيره، ولكل وجهة، ولكل نصيب فيما اجتهد فيه. والله أعلم .
الثانية: رتب في حديث nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد السابقين إلى الجمعة على خمس مراتب؛ أولها البدنة، وآخرها الدجاجة، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ترتيب هذه المراتب على خمس ساعات، فقال الجمهور: المراد بهذه الساعات الأجزاء الزمانية التي يقسم النهار منها على اثني عشر جزءا، وابتداؤها من طلوع الفجر، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ومن وافقه من أصحابه ومن غيرهم: المراد بها لحظات لطيفة بعد زوال الشمس. وهذا وإن كان خلاف ظاهر اللفظ، فقد كان شيخي الإمام المحدث أبو الحسن السندي المدني -رحمه الله تعالى- يعتمد على هذا، ويفتي به، وينقل ذلك عن شيخه الشيخ محمد حياة السندي -رحمه الله تعالى-، وأنه كان يعتمد على ذلك. والله أعلم .
الثالثة: تعلق nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك -رحمه الله تعالى- بقوله في الحديث: مثل المهجر، فقال: التهجير إنما يكون في الهاجرة، وهي شدة الحر، وذلك لا يكون في أول النهار، وأجيب عنه أن التهجير كما يستعمل بمعنى الإتيان في الهجير -كما قاله الفراء- كذلك يستعمل في معنى التبكير، فهو مشترك اللفظ بين المعنيين، واستعمال المعنى الثاني أولى لئلا تتضاد الأخبار .
الرابعة: قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك -رحمه الله تعالى-: رتب السابقين على خمس ساعات بقوله: راح، والرواح لا يكون إلا بعد الزوال، كما ذكره الجوهري وغيره، وأجيب عنه بأن المراد من الرواح هنا مطلق الذهاب، وهو شائع في الاستعمال أيضا، نقله الأزهري وغيره، أو نقول: إن الرائح يطلق على قاصد الرواح، كما يقال لقاصد مكة قبل أن يحج: حاج، وللمتساومين: متبايعين، ومثل هذا الاستعمال لا ينكر .
الخامسة: قال nindex.php?page=showalam&ids=14345الرافعي: ليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، واحتج القفال بوجهين؛ أحدهما: أنه لو كان المراد الساعات المذكورة لاستوى الجائيان في الفضل في ساعة واحدة مع تعاقبهما في المجيء، والثاني: أنه لو كان كذلك لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف، ولفاتت الجمعة في اليوم الثاني لمن جاء في الساعة الخامسة، وتبعه على ذلك النووي في الروضة، لكن خالفه في شرح المهذب، فقال فيه: المراد بالساعات المعروفة خلافا لما قاله nindex.php?page=showalam&ids=14345الرافعي، ولكن بدنة الأول أكمل من بدنة الثاني، وهذا الذي ذكره النووي جواب على احتجاج nindex.php?page=showalam&ids=15021القفال الأول، والجواب على احتجاجه الثاني ما ذكره العراقي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي، فقال: أهل الميقات لهم اصطلاحان في الساعات، فالساعات الزمانية كل ساعة منها خمس عشرة درجة، والساعات الآفاقية يختلف قدرها باختلاف طول الأيام وقصرها في الصيف والشتاء، فالنهار اثنتا عشرة، ومقدار الساعة يزيد وينقص، وعلى هذا الثاني تحمل الساعات المذكورة في الحديث، فلا يلزم عليه ما ذكره من اختلاف الأمر باليوم الشاتي والصائف، ومن فوات الجمعة لمن جاء في الساعة الخامسة. والله أعلم .
السادسة: قد يستدل بعموم الحديث على استحباب التبكير للخطيب أيضا، لكن دل قوله في آخره: "فإذا خرج الإمام" على أنه لا يخرج إلا بعد انقضاء وقت التبكير المستحب في غيره، وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي: يختار الإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تقام فيه الصلاة، ولا يبكر اتباعا لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، واقتداء بفعل الخلفاء الراشدين. قال: ويدخل المسجد من أقرب أبوابه. اهـ .
السابعة: أطلق في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد التهجير من غير سبق اغتسال، وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري: nindex.php?page=hadith&LINKID=650832من اغتسل غسل الجنابة، ثم راح... مقيدا بالاغتسال، فعلم من ذلك أنه لا يكون المهجر كمن أهدى بدنة، وكذا المذكورات بعده إلا بشرط تقدم الاغتسال عليه في ذلك اليوم، والقاعدة حمل المطلق على المقيد، فحينئذ في قول الزركشي نظر، وهو ولو تعارض الغسل والتبكير، فمراعاة الغسل أولى؛ لأنه مختلف في وجوبه، ولأن نفعه متعد إلى غيره، بخلاف التبكير. والله أعلم .