وما لا يحصل به صوت لا يعد كلاما ، وليس على شكل حروف الكلام إلا أنه مكروه فينبغي أن يحترز منه ، إلا كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ؛ إذ روى بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في القبلة نخامة فغضب غضبا شديدا ، ثم حكها بعرجون كان في يده ، وقال : ائتوني بعبير فلطخ أثرها بزعفران ، ثم التفت إلينا ، وقال : أيكم يحب أن يبزق في وجهه ؟ فقلنا : لا أحد قال : فإن أحدكم إذا دخل في الصلاة ، فإن الله عز وجل بينه وبين القبلة . وفي لفظ آخر واجهه الله تعالى ، فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه ، ولا عن يمينه ، ولكن عن شماله ، أو تحت قدمه اليسرى ، فإن بدرته بادرة ، فليبصق في ثوبه ، وليقل به هكذا ، ودلك بعضه ببعض .
(مسألة)
ثالثة في حكم البزاق في الصلاة، وإذا غلبه كيف يفعل (إذا بصق) المصلي (في صلاته لم تبطل صلاته؛ لأنه فعل قليل) ، والفعل القليل لا يبطل الصلاة، كما تقدم (وما لا يحصل به صوت) مفهم (لا يعد كلاما، وليس على شكل حروف الكلام) ، والمراد بالكلام هنا اللفظ المركب من حرفين، أو أكثر، حتى لو تلفظ بكلمة واحدة تفسد عند أصحابنا، وقد تقدمت الإشارة إليه في مفسدات الصلاة، ويشترط عندنا في الكلام أمران؛ التصحيح، أو السماع (إلا أنه مكروه) ، وذلك إذا لم يكن مدفوعا إليه؛ لأنه أجنبي لا فائدة فيه. أما لو اضطر إليه بأن خرج بسعال، أو تنحنح ضروري، فلا يكره (فينبغي أن يحترز عنه، إلا كما أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه؛ إذ روى بعض الصحابة أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى في القبلة نخامة) ، وهي "بضم النون" البلغم الذي ينفذ إلى الحلق بالنفس العنيف، إما من الخيشوم، أو من الصدر (فغضب غضبا شديدا، ثم حكها بعرجون) من نخل (كان في يده، وقال: ائتوني بعبير) ، وهو طيب معروف يعمل من الأخلاط، فأتوه به (فلطخ أثرها بزعفران، ثم التفت إلينا، وقال: أيكم يحب أن يبزق في
[ ص: 310 ] وجهه؟ فقلنا: لا أحد) يحب ذلك (قال: فإن أحدكم إذا دخل في الصلاة، فإن الله - عز وجل - بينه وبين القبلة. وفي لفظ آخر) : إذا دخل في الصلاة (واجهه الله تعالى، فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة، فليبصق في ثوبه، وليقل به هكذا، ودلك بعضه ببعض) . هكذا ساقه صاحب القوت بتمامه، وقال العراقي: أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر، واتفقا عليه مختصرا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس، nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة، وأبي سعيد، nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة، nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر.
الأولى: قوله: فإنه يناجي ربه. هو من جهة مساررته بالقرآن والأذكار، فكأنه يناجيه تعالى، والرب تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير، فهو من باب المجاز؛ لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوب إلا من جهة العبد .
الثانية: قوله: أو أن ربه بينه وبين القبلة، ظاهره محال؛ لتنزيه الرب تعالى عن المكان، فيجب على المصلي إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء، وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلمنا الله بإقباله على من توجه إليه .
الثالثة: قوله: أو يفعل هكذا، فيه البيان بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس، وليست أو للشك؛ بل للتنويع، ومنهم من قال: هو مخير بين هذا وهذا، لكن في الرواية الأخرى في باب إذا بدره البصاق ما يشهد للتنويع .
الخامسة: ظاهر الروايات السابقة في النهي عن البصاق مقيد بما إذا كان داخل الصلاة، وفي بعضها عدم التقييد، والمطلق محمول على المقيد، وقد جزم النووي بالمنع منه في الجهة اليمنى داخل الصلاة، وخارجها، سواء كان في المسجد، أو غيره، ويؤيده ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق وغيره، عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه، وليس في الصلاة، وعن nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا، وعن nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل قال: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت، ونقل عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أنه قال: لا بأس به؛ يعني خارج الصلاة، وكان الذي خصه بالصلاة أخذه من علة النهي المذكورة في رواية همام، عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة حيث قال: فإن عن يمينك ملكا. وعند nindex.php?page=showalam&ids=12508أبي بكر بن أبي شيبة بسند صحيح، فإن عن يمينك كاتب الحسنات .
السادسة: قوله: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها. فقوله: في المسجد ظرف للفعل، فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ويؤيده حديث nindex.php?page=showalam&ids=481أبي أمامة عند nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني بإسناد حسن مرفوعا: من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ورده النووي، فقال: هو خلاف صريح الحديث، قال: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا، وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة، وقوله: ليبصقن عن يساره، أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاما، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي يجعل الثاني عاما، ويخص الأول بمن لم يرد دفنها، وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر لم يتمكن في الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر .
الثامنة: قوله: فيدفنها؛ أي: يغيب البصقة بالتعميق إلى باطن أرض المسجد إن كان مفروشا بتراب، أو رمل، أو حصى، كما كان في الصدر الأول، وبشرط أن لا يكون باطن أرض المسجد متنجسا بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، وإلا فليدلكها بشيء حتى يذهب أثرها البتة، أو يخرجها خارج المسجد، وهذا الحكم اليوم لا يمكن إجراؤه؛ لأن المساجد بعد أن فرشت بالرخام لم يكتفوا به، ففرشوا عليه الحصر المثمنة، ولم يكتفوا بها، ففرشوا عليها بالأنماط الروسية، والبسط الغالية، والطنافس العجمية، فالأوفق للمصلي أن يبزق في ثوب له، ثم يرد بعضه على بعضه، كما فعله -صلى الله عليه وسلم-. والله أعلم .