اعلم أن العلم بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام قسم هو مذموم قليله وكثيره وقسم هو محمود قليله وكثيره وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل وقسم يحمد منه مقدار الكفاية ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه وهو مثل أحوال البدن فإن منها ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال ومنها ما يذم قليله وكثيره كالقبح وسوء الخلق ومنها ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال فإن التبذير لا يحمد فيه وهو بذل وكالشجاعة فإن التهور لا يحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة فكذلك العلم .
فالقسم المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلسمات والنجوم فبعضه لا فائدة فيه أصلا وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة وإضاعة النفيس مذمومة ومنه ما فيه ضرر يزيد على ما يظن أنه يحصل به من قضاء وطر في الدنيا فإن ذلك لا يعتد به بالإضافة إلى الضرر الحاصل عنه .
وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة وبذل المقدور فيه إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب فإنه البحر الذي لا يدرك غوره وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسر لهم وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء والراسخون في العلم على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف قوتهم وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب ويعين على التنبه له التعلم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة كما سيأتي علامتهم هذا في أول الأمر ويعين عليه في الآخرة المجاهدة والرياضة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا والتشبه فيها بالأنبياء والأولياء ليتضح منه لكل ساع إلى طلبه بقدر الرزق لا بقدر الجهد ولكن لا غنى فيه عن الاجتهاد فالمجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها .
(اعلم أن العلم بهذا الاعتبار) الذي عرفته ينقسم على (ثلاثة أقسام) منها (قسم هو مذموم قليله وكثيره) وقد ذكر ابن ساعد في إرشاد القاصد أن العلم من حيث هو علم ليس بمذموم وإنما ذمه لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يجاوز ولكل عالم ناموس لا يخل به (و) منها (قسم هو محمود قليله وكثيره) نظرا إلى موضوعه وغاياته (و) هذا القسم (كل ما كان أكثر كان أحسن وأفضل) فإن ما حمدت عواقبه فالكثرة منه فضيلة حسنة (و) منها (قسم يحمد منه مقدار الكفاية) لا غير (ولا يحمد الفاضل) أي: الزائد (عليه) ولا يحمد (الاستقصاء فيه) أي: بذل الجهد لتحصيله على أقصى مراتب الكمال (وهو) هذه الأقسام الثلاثة مثلها (مثل أحوال البدن) من الإنسان (فإن منه ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال) .
قال صاحب المصباح: الصحة في البدن حالة طبيعية تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي. اهـ. والجمال رقة الحسن ذكره nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه وقال nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب: هو الحسن الكثير (و) منه (ما يذم قليله وكثيره القبح) أي: قبح الصورة (وسوء الخلق) فإنهما مذمومان كذلك فالقبح ذمه نظرا إلى الظاهر وسوء الخلق نظرا إلى الباطن كما أن الجمال محمود مطلقا نظرا إلى الظاهر وهو يقتضي غالبا حسن الخلق وصحة البدن نظرا إلى الباطن (ومن ما يحمد الاقتصاد) أي: التوسط (فيه كبذل المال) أي: صرفه (فإن التبذير) وهو بذله في غير موضعه (لا يحمد فيه) أي في المال (وهو بذل) في الجملة (وكالشجاعة) وهي هيئة حاصلة للقوة الغضبية بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها (فإن التهور) وهو الوقوع في أمر بقلة مبالاة وفكر (لا يحمد) لكونه على غير بصيرة فيه (وإن كان من جنس الشجاعة) وقال بعض الشجاعة ما بين التهور والجبن (فكذلك العلم) فإن القدر المذموم منه ولو كان من جنسه إلا أنه لا يحمد (فالقسم المذموم قليله وكثيره ما لا فائدة فيه) ولا عاقبة حميدة (في دين ولا دنيا إذ فيه ضرر) إما بصاحبه أو بغيره (يغلب نفعه كعلم الطلمسات والسحر والنجوم) والكيمياء والسيمياء والشعبذة وما أشبهها (فبعضه لا فائدة فيه أصلا وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه) أي إلى تحصيل مثله (إضاعة) له وقالوا: الوقت سيف إن لم تقطعه في الخير قطعك (وإضاعة النفائس مذمومة) عند أهل الحق (ومنه ما فيه ضرر يزيد) ويظهر (على ما يظن أنه يحصل به من قضاء وطر) أي: حاجة أو نفع (في الدنيا فإن ذلك لا يعتد به) ولا يعتبر (بالإضافة) أي: بالنسبة (إلى الضرر الحاصل منه) .
قال ابن ساعد: ومن الوجوه الموهمة كون العلم ضارا أن يظن بالعلم فوق غايته أو فوق مرتبته أو أن يقصد بالعلم غير غايته وأن يتعاطاه من [ ص: 267 ] ليس من أكفائه (وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله سبحانه وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وترتيب الآخرة على الدنيا) وهو علم اليقين والمعرفة والتبصر في فقه القلوب، وكان nindex.php?page=showalam&ids=16065سهل يقول: العلم ثلاثة: علم بالله وعلم لله وعلم بحكم الله. أشار بالأول إلى علم اليقين وبالثاني إلى علم الإخلاص والأحوال والمعاملات وبالثالث إلى تفصيل الحلال والحرام (فإن هذا علم مطلوب لذاته) لشرف موضوعه وأشار إلى سر غايته بقوله (وللتوصل إلى سعادة الآخرة) الباقية (وبذل المقدور) أي: صرفه (فيه) أي في تحصيله (إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب فإنه البحر) الزاخر (الذي لا يدرك) آخره ولا يسبر (غوره وإنما يحوم) أي يدور ويطوف (المحومون) وفي نسخة: الحائمون يقال: حام على الماء إذا ورده وكذلك حوم (على سواحله وأطرافه بقدر ما يسر لهم وما خاض أطرافه) المنتهية (إلا الأنبياء) صلوات الله عليهم وسلامه (والأولياء) في عباده الصالحين (والراسخون في العلم) .
قال nindex.php?page=showalam&ids=12195أبو يزيد البسطامي: خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله قال أبو العباس المرسي: إنما يشكو بهذا الكلام ضعفه وعجزه عن اللحاق بالأنبياء ومراده أن الأنبياء خاضوا بحر التوحيد ووقفوا من الجانب الآخر على ساحل الفرق يدعون الخلق إلى الخوض أي فلو كنت كاملا لوقفت حيث وقفوا قال ابن عطاء الله وهذا الذي فسر به الشيخ كلام أبي يزيد هو اللائق بمقام أبي يزيد، فإن المشهور عنه التعظيم لمراسم الشريعة، والقيام بكمال الأدب، ثم إن هذه العبارة التي ذكرها المصنف من ذكر الأولياء بعد الأنبياء وتقديمهم على العلماء الراسخين سيأتي نظيرها في ذكر معرفة الله والعلم به، أن الرتبة العليا في ذلك للأنبياء ثم للأولياء العارفين ثم للعلماء الراسخين ثم للصالحين فقدم الأولياء على العلماء وفضلهم عليهم، وقد سئل عن ذلك العز بن عبد السلام هل هو صحيح أم لا؟ فأجاب لا شك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام فإن العارفين بالله أفضل من أهل الفروع والأصول وكيف يسوي بين العارفين والفقهاء، والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله سبحانه وأما قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله دون العارفين بأحكامه، ولا يجوز حمل ذلك على علماء الأحكام لأن الغالب عليهم عدم الخشية وخبر الله تعالى صدق ولا يحمل إلا على من عرفه وخشيه هذا حاصل ما قاله في الجواب (على اختلاف درجاتهم) عند الله تعالى (بحسب اختلاف قربهم) منه سبحانه (وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب) وهو المشار إليه في الحديث المتقدم أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله. الحديث، وهذا من جملة المواضع التي أنكر عليه أبو عبد الله المازري وغيره من المالكية وتقدم الجواب عنه في مقدمة الكتاب (ويعين على التنبيه له) والتفطن لأسراره (التعلم) من أهله بشروطه (ومشاهدة أحوال علماء الآخرة) .
قال صاحب القوت: وكان ذو النون يقول: اجلس إلى من تعلمك أفعاله ولا تجلس إلى من يخاطبك مقاله، وقد كان طائفة يصحبون كثيرا من أهل المعرفة للتأدب والنظر إلى هديهم وأخلاقهم وإن لم يكونوا علماء لأن التأدب يكون بالأفعال والتعلم يكون بالمقال (هذا في أول الأمر) وابتدائه حين شروعه في السلوك (ويعين عليه في الآخر) أي: آخر الأمر (المجاهدة) في النفس (والرياضة) الشرعية بمنعها عن كل ما تميل إليه من المباحات (وتصفية القلب) عن الأوصاف الذميمة (وتفريغه) أي: تخليته ( عن علائق الدنيا) وشواغلها الصارفة عن الحضور مع الله تعالى (والتشبه فيه) وفي نسخة: فيها (بأنبياء الله تعالى وأوليائه) والصالحين من أخصائه (ليتضح منه لكل ساع إلى طلبه) أي: مطلوبه (بقدر الرزق) أي: بقدر ما رزقه الله تعالى ويسر له في نصيبه من الأزل (لا بقدر الجهد) والاستطاعة (ولكن لا غنى فيه عن الاجتهاد) وبذل الوسع (فالمجاهدة مفتاح الهداية) .
قال الله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (لا مفتاح لها) [ ص: 268 ] أي: لأبواب الهداية الربانية (سواها) أي: سوى المجاهدة، ولنذكر هنا ما يتعلق بالمجاهدة والجهاد ونبين مراتب ذلك ليكون السالك على بصيرة .
قال ابن القيم في الهدي النبوي الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، فجهاد النفس أربع مراتب أيضا: إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين، الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها، الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه لمن لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله، الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، وإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء، وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: إحداهما: جهاده على رفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان والثانية: جهاده على دفع ما يلقى إليه من الإرادات والشهوات فالجهاد الأول: يكون بعد اليقين والثاني بعد الصبر، قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين فبالصبر تدفع الشهوات والإرادات، واليقين يدفع الشكوك والشبهات، وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص بالبيان .
وأما جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع فثلاثة مراتب: الأولى: باليد إذا قدر فإن عجز انتقل إلى اللسان فإن عجز جاهد بقلبه فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ثم قال: وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه وهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد، وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصوده، وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تعالى تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله تعالى خاتم أنبيائه ورسله فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: والمقصود إن الله تعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ويخلصها بكثير الامتحان كالذهب الذي لا يصفو ولا يخلص من غشه إلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخوله الجنة. اهـ .
وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ بالمجاهدة والرياضة ليكون بها أهلا للدخول في حضرة المشاهدة ومن جاهد في الله هدي إلى صراط مستقيم وفاز بالنعيم المقيم .