اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس .
ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة .
وكما أن الذي خير بين الشرب والفواحش وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة .
ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب وتارة يغلب وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره .
فما دام يبقى في الدنيا واحد يذكره بقوة العلم والنظر أو يظن أنه أحسن منه كلاما وأقوى نظرا فلا بد أن يحسده ويحب زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه والحسد نار محرقة فمن بلي به فهو في العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأعظم ولذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة .
(بيان آفات المناظرة وما يتولد منها)
في الجانبين (من مهلكات الأخلاق) وقواتلها (اعلم) أيها الإنسان (وتحقق) في نفسك (أن المناظرة الموضوعة) التي ابتدعوها الآن (لقصد الغلبة) على الخصم (والإفحام) أي: الإسكات (وإظهار الفضل) والمزية (والتشرف) وفي نسخة: والشرف (عند الناس) في المحافل (وقصد المباهاة) أي: المفاخرة (والمماراة) أي: المخاصمة (واستمالة) أي: طلب ميل وصرف (وجوه الناس) بالالتفات (هي منبع جميع الأخلاق المذمومة) المعكوسة (عند الله) تعالى (المحمودة عند عدو الله إبليس) لعنه الله، والشيء قد يكون محمودا ومذموما باختلاف النسب والإضافات (ونسبتها) أي: المناظرة (إلى الفواحش الباطنة) المعقولة (من) نحو (الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها) على ما سيأتي بيانها في المهلكات (نسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة) المحسوسة (من) نحو (الزنا والقذف والقتل والسرقة) وغيرها (وكما أن الذي خير بين الشرب) أي: بين أن يشرب الخمر (و) بين ارتكاب (سائر الفواحش) كقتل وزنا وغير ذلك (استصغر الشرب) أي: عده صغيرا (فأقدم عليه) فشربه (فدعاه ذلك) وحمله (إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره) فزنى وقتل وفعل ما فعل وذلك لكونه جماع الإثم ومفسد العقل ومفسدا للدنيا والدين وقد ورد في شربه أحاديث يأتي بيانها في مواضعها (وكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه) عند ذويه (والمباهاة به دعاه ذلك) وجره (إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه) أي في الإنسان (جميع الأخلاق) الرذيلة (المذمومة) المعكوسة (وهذه الأخلاق) بتمامها (سيأتي) بيانها وتأتي (أدلة مذمتها) المستنبطة (من الأخبار) الواردة (والآيات في ربع المهلكات) إن شاء الله [ ص: 294 ] تعالى (ولكنا نشير الآن) بحسب المقام (إلى مجامع ما تهيجه المناظرة) وتبعثه عليه (فمنها الحسد) وهو تسخط قضاء الله والاعتراض عليه وهو مذموم قال الله تعالى: ومن شر حاسد إذا حسد (وقد قال صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=676180الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) لأنه اعتراض على الله فيما لا عذر للعبد فيه؛ لأنه لا يضره نعمة الله على عبده فالله لا يعبث ولا يضع الشيء في غير محله فكأنه نسب ربه للجهل والسفه ولم يرض بقضائه والحاسد معاقب بالغيظ الدائم في الدنيا وفي الآخرة بإحباط الحسنات، قال العراقي: أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري: لا يصح وهو عند nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بإسناد ضعيف وفي تاريخ بغداد بإسناد حسن. اهـ .
قلت: أما nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود فأخرجه من رواية إبراهيم بن أبي أسيد عن جده عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=676180إياكم والحسد فإن الحسد، فذكره، وجده، قال الذهبي: لعله سالم البراد ثقة وقول nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري لا يصح هو في تاريخه الكبير وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس الذي أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه فمن رواية عيسى الحناط عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد عنه وعيسى الحناط ضعيف وفي ترجمته رواه nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي في الكامل وقال: هو متروك الحديث وفي هذا الحديث زيادة في آخره nindex.php?page=hadith&LINKID=680713والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والصلاة نور المؤمن والإيمان جنة من النار.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي في الكامل: ورواه واقد بن سلامة، وقيل: سلمة عن يزيد الرقاشي عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس هكذا، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=15124الليث بن سعد عن nindex.php?page=showalam&ids=17000محمد بن عجلان عنه عن يزيد ورواه nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة عن محمد بن واقد عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس ولا يصح قال أبو بكر بن أبي دواد والصواب عن يزيد عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس، وفيه زيادات ذكر الصلاة والصيام والصدقة. اهـ .
ورواه nindex.php?page=showalam&ids=14231الخطيب في تاريخ بغداد وليس فيه عيسى الحناط وفي الباب عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ومعاوية بن حيدة، فحديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رواه nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في غرائب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث عن nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع عنه وقال باطل، ورواية nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية أخرجه الديلمي عن معاوية بن حيدة الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل.
وفي الباب أيضا حديث الزبير أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر في كتاب العلم بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=682183دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء (ولا تنفك المناظرة عن الحسد فإنه) أي: المناظر (تارة يغلب) على خصمه (وتارة يغلب) منه (وتارة يحمد كلامه وأخرى) وفي نسخة: وتارة (يحمد كلام غيره) بحسب المقامات (فما دام يبقى في الدنيا واحد) أي في الحياة (يذكر بقوة العلم و) وحدة (النظر) وحسن الفهم (أو يظن أنه أحسن منه كلاما) وسياقا وسردا (أو أقوى نظرا) في المسائل (فلا بد أن يحسده) ويتسخط عليه باطنا (ويحب زوال النعم عنه وانصراف الوجوه والقلوب عنه إليه) بل يحب هلاكه كيف أمكن ليخلو له الميدان وهذا محسوس مشاهد (والحسد) في الحقيقة (نار محرقة) وإليه يشير قول الشاعر :
اصبر على غصص الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
(من بلي به فهو في العذاب الدائم في الدنيا) معاقب بغيظه لا ينفك عنه (ولعذاب الآخرة أشد وأعظم) بإحباط الحسنات ومن ثم كان من الكبائر وقال بعضهم ينشأ من الحسد إفساد الطاعات وفعل المعاصي والشرور والتعب والهم بلا فائدة وغم القلب حتى لا يكاد يفهم حكما من أحكام الله تعالى والحرمان والخذلان فلا يكاد يظفر بمراد (ولذا قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس) -رضي الله عنه- فيما روي من قوله (خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة) رواه nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر في كتاب العلم بلفظ: استمعوا قول القراء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زروبها، قال: وعن مالك بن دينار يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض. اهـ .
وقال ابن السبكي: رأيت في كتاب معين الحكام لابن عبد البر المالكي وقع في المبسوطة عن قول nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب أنه لا يجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء؛ لأنهم أشد تحاسدا وتباغضا وقاله سفيان nindex.php?page=showalam&ids=16871ومالك بن دينار. اهـ. قال ابن السبكي: وليس هذا على الإطلاق ولكن من ثبتت عدالته لا يلتفت فيه إلى قول من تشهد القرائن متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره. اهـ .
قلت: والجملة الأولى [ ص: 295 ] من قول nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لها شاهد قوي من قوله فيما رواه سليمان بن معاذ عن عكرمة عنه خذوا الحكمة ممن سمعتموه، وفي المدخل nindex.php?page=showalam&ids=13933للبيهقي من رواية حسن بن صالح عن عكرمة، عنه خذ الحكمة ممن سمعت وأما قول nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار فأورده nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية بسنده إليه قال: تجوز شهادة في كل شيء إلا شهادة القراء بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس في الزروب .
وأخرج في ترجمة nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار من قوله: يوشك أن تروا جهال الناس يتباهون في العلم ويتغايرون عليه كما تتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من العلم. اهـ .
والتغاير تفاعل من الغيرة والزريبة خطيرة للغنم تتخذ من خشب كالزرب والجمع الزرائب وجمع الزرب الزروب .