إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويعتبر النصاب كالمعشرات والاحتياط أن يخرج الخمس من القليل والكثير ، ومن عين النقدين أيضا خروجا عن شبهة هذه الاختلافات فإنها ظنون قريبة من التعارض وجزم الفتوى فيها خطر لتعارض الاشتباه .


(ويعتبر النصاب كالمعشرات) ؛ لأن ما دون النصاب لا يحتمل المواساة، (والاحتياط أن يخرج الخمس من القليل والكثير، ومن غير النقدين أيضا) مما ذكر (خروجا من شبهة الخلاف) بين الأئمة، فإن أبا حنيفة ومالكا وأحمد وإسحق وأبا عبيد لا يشترطون فيه في وجوب الخمس أن يبلغ نصابا أم لا، وإن أحمد وإسحق وأبا عبيد والأوزاعي لا يفرقون بين أن يكون المستخرج نقدا أو غيره، (فإنها ظنون قريبة من التعارض وجزم الفتوى فيها مخطر) وفي نسخة خطر (لتعارض الأشباه) وتتعلق بهذا الباب فروع: الأول: إذا شرطنا النصاب فليس من شرطه أن ينال في الدفعة الواحدة نصابا بل ناله بدفعات ضم بعضه إلى بعض إن تتابع العمل وتواصل النيل، الثاني: إذا نال من المعدن دون نصاب، وهو يملك من جنسه نصابا فصاعدا، فأما أن يناله في آخر جزء من حول ما عنده أو مع تمام حوله أو قبله ففي الحالين الأولين يصير [ ص: 50 ] مضموما إلى ما عنده، وعليه في ذلك النقد حقه، وفيما ناله حقه على اختلاف الأقوال فيه، وأما إذا ناله قبل تمام الحول فلا شيء فيما عنده حتى يتم حوله، وفي وجوب حق المعدن فيما ناله وجهان؛ أصحهما: يجب، وهو ظاهر نصه في الأم، والثاني: لا، فعلى هذا يجب فيما عنده ربع العشر عند تمام حوله، وفيما ناله ربع العشر عند تمام حوله، ولو كان ما يملكه من جنسه دون نصاب بأن ملك مائة درهم فنال من المعدن مائة، نظر، إن نال بعد تمام حول ما عنده ففي وجوب حق المعدن فيما ناله الوجهان؛ فعلى الأول يجب في المعدن حقه ويجب فيما عنده ربع العشر إذا مضى حول من حين كمل النصاب بالنيل، وعلى الثاني لا يجب شيء حتى يمضي حول من يوم النيل فيجب في الجميع ربع العشر، الثالث: إذا قلنا بالذهب أن الحول لا يعتبر فوقت وجوب حق المعدن حصول النيل في يده، ووقت الإخراج التخليص والتنقية، فلو أخرج قبل التنقية من التراب والحجر لم يجز، وكان مضموما على الساعي يلزمه رده، فلو اختلفنا في قدره بعد التلف أو قبله فالقول قول الساعي مع يمينه، ومؤنة التخلص والتنقية على المالك كمؤنة الحصاد والدراس، الرابع: المكاتب يملك ما يأخذه من المعدن ولا زكاة عليه فيه، وأما ما يأخذه الرقيق فلسيده، فتلزمه زكاته، ويمنع الذمي من أخذ المعدن والركاز من دار الإسلام كما يمنع من إحيائها؛ لأن الدار للمسلمين، وهو دخيل فيها، والمانع له الحاكم فقط، وإن صرح المصنف بأنه يجوز لكل مسلم .

(فصل)

وقال أصحابنا: إذا وجد معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر في أرض خراج أو عشر أخذ منه الخمس، وكذا إذا وجد في الصحراء التي ليست بعشرية ولا خراجية، ولا يجب فيما وجد في داره، وفيما إذا وجد في أرضه روايتان، ففي رواية الأصل: لا يجب، وفي رواية الجامع الصغير: وفي الكنز الخمس لبيت المال وباقيه للمختط له، وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح، فإذا وجد في أرض غير مملوكة لأحد فهو الواجد، وقال أبو يوسف: هو الواجد في المملوكة أيضا، ويشترط أن يكون من ضرب الجاهلية وإلا فهو لقطة، وإن اشتبه فهو جاهلي في ظاهر المذهب؛ لأنه الأصل، وقيل: إسلامي في زماننا لتقادم العهد، والمتاع من السلاح والآلات وأثاث المنازل والفصوص والقماش في هذا كالكنز وعنده في الزئبق الخمس، وبه قال محمد، وقال أبو يوسف: لا شيء فيه ولا يخمس ركاز وجده مستأمن في دار الحرب؛ لأنه ليس بغنيمة، ثم إن وجده في دار بعضهم يرده عليهم تحرزا عن الغدر، وإن وجده في صحراء فهو له ولا يخمس فيروزج ولا ياقوت، وكذا جميع الجواهر والفصوص إذا أخذها من معدنها، وأما إذا وجدت كنزا وهو دفين الجاهلية ففيه الخمس؛ لأنه لا يشترط في الكنوز إلا المالية لأنه غنيمة، والحلية المستخرجة من البحر حتى الذهب والفضة فيه بأن كانت كنزا في قعر البحر لا تخمس عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يجب في جميع ما يخرج من البحر، فحاصل ما يوجد تحت الأرض نوعان: معدن وكنز، ولا تفصيل في الكنز، بل يجب فيه الخمس كيفما كان، سواء كان من جنس الأرض أو لم يكن بعد إن كان مالا متقوما؛ لأنه دفين الكفار بين أيدينا قهرا فصار غنيمة، وفيها يشترط المالية لا غير، وأما المعدن فعلى ثلاثة أنواع: ما يذوب بالنار وينطبع كالذهب والفضة وغيرهما، ونوع لا يذوب ولا ينطبع كالكحل وسائر الحجارة، ونوع يكون مائعا كالقبر والنفط والملح المائي؛ فالوجوب يختص بالنوع الأول دون الأخير، والله أعلم .

(تنبيه)

قال صاحب الغاية من أصحابنا: المال المستخرج من الأرض له أسام ثلاثة: الكنز والمعدن والركاز. والكنز اسم لما دفنه بنو آدم، والمعدن اسم لما خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقت الأرض، والركاز اسم لهما جميعا.

والكنز مأخوذ من كنز المال إذا جمعه، والمعدن من عدن بالمكان أقام به، والركاز من ركز الرمح أي: غرزه، وعلى هذا جاز إطلاقه عليهما جميعا؛ لأن كل واحد منهما مركوز في الأرض، أي: مثبت، وإن اختلف الراكز. اهـ. أي: المثبت في المعدن الخالق، وفي الكنز المخلوق، وقال ابن الهمام في فتح القدير: الركاز يعمهما؛ لأنه من الركز مراد به في المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق، فكان حقيقة فيهما [ ص: 51 ] مشتركا معنويا وليس خاصا بالدفين، ولو دار الأمر فيه بين كونه مجازا فيه أو متواطئا؛ إذ شك في صحة إطلاقه على المعدن كان التواطؤ متعينا. اهـ .

وبه اندفع ما في غاية البيان والبدائع وشرح المختار من أن الركاز حقيقة في المعدن؛ لأنه خلق فيها مركبا، وفي الكنز مجازا بالمجاورة، محطه أن ما في الكتب الثلاثة من أن الركاز حقيقة في المعدن ومجاز في الكنز ممنوع؛ لأنه يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز بلفظ، والباب معقود لهما، فالصحيح أنه حقيقة فيهما، وحجة من قال: المعدن ليس بركاز، ما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة رفعه قال: العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس. ووجه الاحتجاج عطف الركاز على المعدن، وفرق بينهما وجعل لكل منهما حكما، ولو كانا بمعنى واحد لجمع بينهما، وقال: والمعدن جبار وفيه الخمس، أو قال: والركاز جبار وفيه الخمس، فلما فرق بينهما دل على تغايرهما .

قال ابن المنذر في الأشراف: قال الحسن البصري: الركاز المدفون دفن الجاهلية دون المعادن، وبه قال الشعبي ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي وأبو ثور، وقال الزهري وأبو عبيد: الركاز المال المدفون والمعدن جميعا، وفيهما جميعا الخمس اهـ .

قلت: وللخصم أن يقول: المعدن هو الركاز، فلما أراد أن يذكر لها حكما آخر ذكره بالاسم الآخر، وهو الركاز، ولفظ الصحيح كما تقدم، والبئر جبار وفي الركاز الخمس، فلو قال: وفيه الخمس لحصل الالتباس باحتمال عود الضمير إلى البئر، فتأمل، وأما حجة من قال: المعدن ركاز وفيه الخمس، حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عبد الله بن عمرو، وفيه: وما كان في الطريق غير الميت، وفي القرية غير المسكونة فضة، وفي الركاز الخمس.

أخرجه البيهقي، وقال: أجاب عن هذا من قال بالأول، يعني بأن المعدن ليس بركاز، والجواب: أن هذا ورد فيما يوجد من أموال الجاهلية ظاهرا فوق الأرض في الطريق غير الميت وفي القرية غير المسكونة فيكون فيه وفي الركاز الخمس، وليس ذلك من المعدن بسبيل، ثم حكى عن الشافعي ما ملخصه: كان عمرو بن شعيب حجة، فالمخالف احتج منه بشيء واحد، إنما هو توهم، وخالفه في غير حكم، وإن كان غير حجة فالحجة بغير حجة جهل، ثم قال البيهقي: قوله: إنما هو توهم، إشارة إلى ما ذكره أنه ليس بوارد في المعدن، إنما هو في معنى الركاز من أموال الجاهلية، قلت: روى البيهقي في باب الطلاق قبل النكاح عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: صح سماع عمرو عن أبيه شعيب وسماع شعيب عن جده عبد الله، ثم قال البيهقي في باب وطء المحرم: وفي باب الخيار من البيوع ما دل على سماع شعيب عن جده عبد الله، إلا أنه إذا قيل: عمرو عن أبيه عن جده يشبه أن يراد بجده محمد بن عبد الله، وليست له صحبة، فيكون الخبر مرسلا، وإذا قيل: عن جده عبد الله، زال الإشكال وصار الحديث موصولا اه كلامه .

وهذا الحديث قيل فيه عن أبيه عن عبد الله فهو على هذا حجة، فلا وجه لترديد الشافعي، وقد أورد ابن عبد البر هذا الحديث في التمهيد، ولفظه: قال صلى الله عليه وسلم في كنز وجده رجل: إن كنت وجدته في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة أو غير سبيل ميناء ففيه وفي الركاز الخمس. وكذا أورد البيهقي هذا الحديث في باب زكاة الركاز، وهذه الرواية تدفع الجواب الذي ذكر البيهقي أن الشافعي أشار إليه، وهو أنه ورد فيما يوجد ظاهرا فوق الأرض؛ لأن الكنز على ما ذكره الجوهري وغيره: هو المال المدفون، وفي الفائق للزمخشري: الركاز ما ركزه الله في المعادن من الجواهر .

وقال الهروي: اختلف في تفسير الركاز أهل العراق وأهل الحجاز، فقال أهل العراق: هي المعادن، وقال أهل الحجاز: هي كنوز أهل الجاهلية، وكل محتمل في اللغة .

وذكر نحوه صاحب المشارق، وعطف الركاز على الكنز في الحديث الذي ذكرناه دليل على أن الركاز غير الكنز، وأنه المعدن كما يقول أهل العراق، فهو حجة لمخالف الشافعي، وقال الخطابي: الركاز وجهان؛ فالمال الذي يوجد مدفونا في الأرض لا يعلم له مالك، وعروق الذهب والفضة ركاز، وقال الطحاوي في أحكام القرآن: وقد كان الزهري، وهو راوي حديث الركاز، يذهب إلى وجوب الخمس في المعادن .

حدثنا يحيى هو ابن عثمان المصري، حدثنا نعيم، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يونس عن الزهري في الركاز المعدن واللؤلؤ يخرج من البحر [ ص: 52 ] والعنبر في ذلك الخمس اهـ .

وروى ابن عبد البر عن الأوزاعي مثل قول الزهري في وجوب الخمس في المعادن، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية