ومما أنكروا عليه أيضا في تقريره الشبلي على رمي ما كان معه من الدنانير في الدجلة، وقال: ما أعزك عبدا لا أذله الله تعالى.
وقال
ابن القيم: وأنا أتعجب
من أبي حامد أكثر من تعجبي من هؤلاء الجهلة بالشريعة كيف يحكي ذلك عنهم على وجه المدح لهم لا على وجه الإنكار؟! وأي رائحة بقيت من الفقه عند أبي حامد حتى يكتب عنه شيء من العلم؛ فإن الفقهاء كلهم يقولون: إن رمي المال في البحر لا يجوز .
والجواب قد تقدم مرارا أن أهل الطريق مجتهدون في أحوالها، وأن من قواعد أهل الشريعة ارتكاب أخف الضررين إذا تعارض معنا مفسدتان، وقد تعارض هنا أمران، أحدهما مفسدة الدين، فقدموه على المفسد للدنيا، فافهم، والله أعلم .
[ ص: 39 ] ومما أنكروا عليه أيضا: ما حكاه عن
nindex.php?page=showalam&ids=16113شقيق البلخي أنه رأى مع شخص رغيفا ليفطر عليه من صومه، فهجره، وقال تمسك رغيفا إلى الليل .
قال
ابن القيم: انظروا إلى هذا الجهل العظيم بالشريعة كيف يفعل محرما لأجل أمر مباح؟! وكيف يجوز هجر المسلم بغير سبب مسوغ لذلك؟! والذي عندي أن هؤلاء لما قل علمهم بالشرع صدرت منهم هذه الأقوال والأفعال المخالفة للشريعة .
وقد كان
يحيى بن يحيى يقول: عندي أن
مخالفة الصوفية من جملة طاعة الله -عز وجل- ولكن اصطلح الذئب والغنم، وقد أنكر الفقهاء
بمصر على
nindex.php?page=showalam&ids=15874ذي النون، وأخرجوه من
أخميم إلى
الجزيرة، إلى
بغداد، وكذلك أنكروا على
nindex.php?page=showalam&ids=12195أبي يزيد البسطامي، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=12032أبي سليمان الداراني، وأحمد بن أبي الحواري، وسهل التستري، وغيرهم، كل ذلك لما كانوا يقعون فيه من مخالفة ظاهر الشرع .
قال: وكانت الزنادقة في العصر الأول يكتمون حالهم، ولم يتجاسروا على إظهار ما عندهم حتى جاءت الصوفية، فرفضوا الشريعة جهرا، وتستروا بمسمى الحقيقة، وصاروا يقولون: هذا شريعة وهذا حقيقة، وهذا من أقبح الأمور; لأن الشريعة قد وضعها الحق تعالى لصالح العباد في الدارين، فما الحقيقة بعد ذلك إلا إلقاء الشيطان في النفس، وقد تمادى هؤلاء الجهلة في غيهم، حتى صار أحدهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، وفي ذلك تصريح بالاستغناء عن بعثة الرسل وهو كفر، وهي حكمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ولكن قد صار
الخوارج عن الشريعة كثيرا بالسكوت على هؤلاء الجهال الذين سموا نفوسهم صوفية، وأطال في ذلك .
والجواب: أما هجر شقيق لمن أمسك الرغيف إلى آخر النهار فهو جائز ليخرجه من ورطة الحرص وطول الأمل، والوقوع في رائحة الاتهام للحق -جل وعلا- في أنه يضيعه ويميته جوعا إذا لم يمسك الرغيف، ولو أنه قوي يقينه لكان تركه إمساك الرغيف وطلبه وقت الحاجة إليه فقط، واستراح من الوقوع في الحرص والشك في أن الله تعالى يضيعه؛ فإن ذلك الرغيف لا يخلو إما أن يكون مقسوما له فلا يقدر أحد أن يأكله فهو ولو رماه في السوق يعود إليه، وإما أن لا يكون مقسوما له فأي فائدة في إمساكه؟! فإنه إذا أمسكه إلى وقت الفطر لا يقدر على أكله، بل يأكله غيره فتأمل .
ثم إن
العلة في تحريم الهجر إنما هو الأذى للمسلم بغير طريق شرعي، كأن يكون لحظ نفس .
وأما
هجر الشيخ للمريد ليقبح في عينه المباح الذي يجره إلى حرام، فلا منع منه; لأنه بطيب نفس من الشيخ والمريد، وقد كان تابعه على امتثال أمره والرضا بما يفعله معه من العقوبات على أعماله الرديئة. فافهم .
وأما قول
ابن القيم: إن مخالفة الصوفية من طاعة الله فهو في غاية القبح؛ فإن حقيقة الصوفي أنه عالم عمل بعلمه على وجه الإخلاص، فكيف يكون مخالفة مثل هذا في أفعاله وأقواله من طاعة الله تعالى؟! والإطلاق في محل التفصيل خطأ، وكان الواجب عليه أن يقول: إن مخالفة من انتسب إلى الصوفية وليس هو منهم طاعة وقربة إلى الله تعالى؛ ليخرج أئمة الطريق .
وأما إنكاره على أهل الحقيقة وقوله: إن الشريعة كانت كافية عن الحقيقة فهو كلام صدر بلا تأمل، فقد قدمنا أن الحقيقة غاية مرتبة الشريعة؛ وذلك أن الناس في مرتبة الشريعة على مرتبتين:
إحداهما: من عمل بالشريعة تقليدا من غير أن يصل إلى مقام اليقين .
والثانية: من عمل بها بعد وصوله إلى مقام اليقين، فليست الحقيقة بأمر زائد على الشريعة؛ لأن الحقيقة هي الإخبار بالأمور على ما هي عليه في نفسها، وهذا هو حقيقة الشريعة، فإن الشارع لا يخبر إلا بالواقع، فغاية أمر التصوف الوصول بالرياضات والمجاهدات إلى مقام العلم واليقين .
وأما قوله: إن من قال: حدثني قلبي عن ربي يكفر، فليس بمسلم لقائله على الإطلاق، إنما يكون كفرا لو قال: أعطاني الله أمرا يخالف الشريعة وصار يتدين به، وأما إذا أطلعه الله من طريق الإلهام والتحديث الذي هو مقام سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر -رضي الله عنه- على أسرار الشريعة ودقائقها، وعلى زيادة آداب في العمل بها فلا منع من ذلك، وما بلغنا أن أحدا من الأولياء ادعى أنه خرج من التقليد للشارع، أو خرج عن دائرة علمه -صلى الله عليه وسلم- أبدا، بل كلهم مجمعون على أن جميع علومهم من باطن شرعه -صلى الله عليه وسلم- ولا يجوز لأحد منهم العمل بما فهمه منها إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة، وموافقته لهما، فاعلمه، والله يغفر لابن القيم ما ظنه بالصوفية؛ فإنه ذب على الشريعة بحسب فهمه .