القسم الثاني : درجتهم دون درجة هؤلاء ، وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة .
(القسم الثاني: درجتهم دون درجة هؤلاء، وهم الممسكون أموالهم) على طريق ملك استحقاق لمن يستحق من ذلك، وملك أمانة لمن هو أمانة بيده، وملك وجود لمن هي موجودة عنه (المراقبون) أي: المنتظرون (لمواقيت الحاجات) الطارئة (ومواسم الخيرات) الدينية (فيكون قصدهم في الادخار) والإمساك (الإنفاق) أي: الصرف على نفسه بما لا بد في نفس الأمر من المنفعة به (على قدر الحاجة) من الطعام والشراب واللباس (دون التنعم) بالزائد على القدر الضروري، (وصرف) معطوف على قوله: الإنفاق؛ أي: وقصدهم بالادخار أيضا صرف (الفاضل) منه (عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهرت وجوهها) أي: هو بيده ملك أمانة لمن يدفع به أيضا ما دفع هو عن نفسه، (وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة) وهم ممن كشف له عن أسماء أصحاب الأشياء مكتوبة عليها، فيمسكها لهم حتى يدفعها إليهم في الوقت الذي قدره الحكم وعينه، فيفرق بين ما هو له فيسميه ملك استحقاق؛ لأن اسمه عليه وهو يستحقه وبين ما هو لغيره فيسميه ملك أمانة؛ لأن اسم صاحبه عليه، والكل بلسان الشرع ملك له في الحكم الظاهر، وتحقيق هذا المقام أن من شح النفس الأدون، والشبهة لها إلى وقت الحاجة، فإذا تعين المحتاج كان العطاء على هذا أكثر نفوس الصالحين، وأما العامة وهم أهل القسم الثالث فلا كلام لنا معهم، وإنما نتكلم مع أهل الله العارفين على طبقاتهم، والقليل من أهل الله من يطلب على أهل الحاجة حتى يوصل إليه ما بيده فرضا كان أو تطوعا؛ فالفرض من ذلك قد عين الله أصنافه ورتبه على نصاب وزمان معين، والتطوع من ذلك لا يقف عند شيء، فإن التطوع إعطاء ربوبية فلا يتقيد، والفرض إعطاء عبودية فهو بحسب ما يرسم له سيده، وإعطاء العبودية أفضل؛ فإن الفرض أفضل من النفل، وأين عبودية الاضطرار من عبودية الاختيار، وهذا الصنف قليل من الصالحين، وشبهتهم أنا لم نكلف الطلب عليهم، والمحتاج هو الطالب، فإذا تعين بالحال أو بالسؤال أعطيته، والذين هم فوق هذه الطبقة التي تعطي على حد الاستحقاق منهم أيضا أعلى من هؤلاء وهم الذين يعطون ما بيدهم كرما إلهيا وتخلقا، فيعطون المستحق وغير المستحق، وهو من جهة الحقيقة الآخذية؛ لأنه ما أخذ إلا بصفة الفقر والحاجة لا بغيرهما، سواء كانت العطية ما كانت من هدية أو وصية أو غير ذلك من أصناف العطايا، فما أعطى إلا غنى عما أعطاه، سواء كان لغرض أو عوض، ولو ما كان غنيا عما أعطى وما أخذ إلا مستحق أو محتاج لما أعطى لغرض أو عوض أو بما كان، فافهم؛ فإنه دقيق، ثم أهل البصائر الذين يراقبون مواقيت الحاجات فيدخرون للشبهة التي وقعت لهم، فمنهم من يدخر على بصيرة ومنهم من لا على بصيرة، وهؤلاء لا نسلم لهم ادخارهم؛ لأنه لا عن بصيرة، وليس من أهل الله، فإن أهل الله هم أصحاب البصائر، والذي عن بصيرة لا يخلو [ ص: 105 ] إما أن يكون من أمر إلهي يقف عنده، ويحكم عليه أو لا عن أمر إلهي، فإن كان عن أمر إلهي فهو عبد محض لا كلام لنا معه، فإنه مأمور، وكان في هذا المقام القطب عبد القادر الجيلي، قدس سره، والله أعلم .
لما كان عليه من التصرف في العالم، وإن لم يكن عن أمر إلهي، فإما أن يكون عن اطلاع أن هذا القدر المدخر لفلان لا يصل إليه إلا على يد هذا فيمسكه لهذا الكشف، وهو أن عين وجوه عبد القادر وأمثاله، وإما أن يعرف أنه لفلان ولكنه لم يطالع على أنه على يده أو على يد غيره، فإمساك مثله لشح في الطبيعة بالموجود، ويحتجب عن ذلك بكشفه من هو صاحبه، فينبغي لمثل هذا أن لا يدخر، ولقد أنصفأبو السعود ابن الشبل حيث قال: نحن تركنا الحق يتصرف لنا، فلم يزاحم الحضرة الإلهية، فلو أمر وقف عند الأمر أو عين له وقف عند التعيين، وفيه خلاف؛ فإن من الرجال من عين لهم أن ذلك المدخر لا يصل إلى صاحبه إلا على يده في الزمن الفلاني المعين، فمنهم من يمسكه إلى ذلك الوقت، ومنهم من يقول: ما أنا حارس أن أخرجه عن يدي؛ إذ الحق تعالى ما أمرني بإمساكه، فإذا وصل الوقت يرده إلى يدي حتى أوصله إلى صاحبه، وأكون ما بين الزمانين غير موصوف بالادخار؛ لأن خزانة الحق ما أنا خازنه؛ إذ قد تفرغت إليه وفرغت نفسي إليه؛ لقوله: وسعني قلب عبدي، فلا أحب أن يزاحمه في تلك السعة أمر ليس هو؛ فاعلم ذلك فقد نبهتك على أمر عظيم في هذه المسألة، فلا تصح الزكاة من عارف إلا إذا ادخر عن أمر إلهي أو كشف محقق معين أنه ما سبق في العلم أن يكون لهذا الشيء خازنا غيره؛ فحينئذ يسلم له ذلك، وما عدا هذا فإنما يزكي من حيث ما تزكي العامة، والله أعلم .