الوظيفة الرابعة : أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيبا للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار ، بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان وهذا ؛ لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء ، وهو هتك ستر الفقير فإنه ؛ ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به ، فإنه محظور والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها وبمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له وقد قال الله تعالى : وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ندب إلى العلانية أيضا ؛ لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال .
(الوظيفة الرابعة: أن يظهر) عطاءه (حيث يعلم أن في إظهاره) على مرأى من الناس (ترغيبا للناس في الاقتداء) به وإرادة للسنة، وتحريضا على مثل ذلك من غيره لينافس فيه أخوه ويسرع إلى مثله أمثاله منهم، (ويحرس سره) أن يحفظ باطنه (عن داعية الرياء) والسمعة (بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء) من ربع المهلكات فهو حسن، وذلك من التحاض على طعام المسكين (فقد قال الله تعالى: إن تبدوا الصدقات ) وهي أعم من أن تكون واجبة أو تطوعا، ولكن إطلاقها في التطوع أكثر كما سيأتي ( فنعما هي ) ، فمدح المبدي بنعم (وذلك) لا يحسن إلا (حيث يقتضي الحال الإبداء) أي: الإظهار (إما للاقتداء) والتأسي أي: كي يقتدي به أمثاله كما تقدم، (وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس) ، فأظهر نفسه وكشفها للسؤال، وآثر التبذل على الصون والتعفف، (فلا ينبغي أن يترك التصدق) عليه في تلك الحالة (خيفة من الرياء في الإظهار، بل ينبغي أن يتصدق) عليه (ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان) ، فكان مفاد هذه الآية لهذا السائل الذي يسأل بلسانه وكفه، والآية التي بعدها كأنها للمستخفين بالمسألة، وهي لخصوص الفقراء الذين لا يظهرون نفوسهم بما يمنعهم الحياء والتعفف، فمن أظهر نفسه فأظهر إليه، ومن أخفاها فاخف له (وهذا؛ لأن في [ ص: 117 ] الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء، وهو هتك ستر الفقير؛ لأنه ربما يتأذى بأن يرى صورة المحتاج) بمد لسانه وكفه (فمن أظهر السؤال) وأبدى صفحة خده للتكفف (فهو الذي هتك ستر نفسه) بنفسه ونصال قرابه أدمى يده (فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو) بهذا الاعتبار (كإظهار الفسق على من يتستر به، فإنه محظور) أي: ممنوع شرعا، (والتجسس فيه والاغتياب بذكره منهي عنه) بلسان الشرع (فأما من أظهره) أي: الفسق وتجاهر به (فإقامة الحد عليه إشاعة) في الخلق وإظهار، (ولكن السبب فيها) والحامل لها أي: كشف عورة الفاسق، إنما حرم عليك أن تظهر عورة من يخفي عنك نفسه، فإذا أظهر نفسه بها فلا بأس أن تظهر عليه كما في القوت، (ولمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في الضعفاء من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بسند ضعيف ا ه .
قلت: ولفظ عدي في الكامل: من خلع، وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=14203الخرائطي في مساوئ الأخلاق، nindex.php?page=showalam&ids=11868وأبو الشيخ في الثواب، nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي nindex.php?page=showalam&ids=14231والخطيب nindex.php?page=showalam&ids=13359وابن عساكر والديلمي nindex.php?page=showalam&ids=15007والقضاعي nindex.php?page=showalam&ids=12938وابن النجار والقشيري في الرسالة، كلهم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي: في إسناده ضعف، وإن صح حمل على فاسق معلن بفسقه اهـ .
قال الذهبي في المهذب: أحد رواته أبو سعيد الساعدي، مجهول، وفي الميزان: ليس بعمدة، ثم أورد له هذا الخبر اهـ .
ورواه الهروي في ذم الكلام وحسنه، وقد رد عليه nindex.php?page=showalam&ids=14467الحافظ السخاوي في المقاصد، والحاصل أن جميع طرق هذا الحديث ضعيفة؛ فطريق nindex.php?page=showalam&ids=11868أبي الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي فيه ابن الجراح عن أبي سعد الساعدي، وقد ذكر حاله، وطريق nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي فيه الربيع بن بدر عن أبان، وهذا أضعف من الأول، ولكن للحديث شواهد تقويه من غير هذه الطرق؛ فقد أخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني nindex.php?page=showalam&ids=13357وابن عدي في الكامل nindex.php?page=showalam&ids=15007والقضاعي من حديث جعدبة بن يحيى عن العلاء بن بشر عن nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة عن بهز بن الحكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعا: nindex.php?page=hadith&LINKID=930837ليس لفاسق غيبة.
قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني nindex.php?page=showalam&ids=16008وابن عيينة: لم يسمع من بهز، وأورده nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب، ونقل عن شيخه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم أنه غير صحيح ولا يعتمد، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12201أبو يعلى nindex.php?page=showalam&ids=14155والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، nindex.php?page=showalam&ids=14798والعقيلي nindex.php?page=showalam&ids=13357وابن عدي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13975الجارود بن يزيد عن بهز، فهذا الإسناد بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=930836انزعوا عن ذكر الفاجر؛ اذكروه بما فيه يحذره الناس. وهذا أيضا لا يصح؛ فإن الجارود ممن رمي بالكذب، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني: هو من وضعه، وقد روي أيضا عن طريق يعمر عن بهز بهذا الإسناد، أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الأوسط من طريق عبد الوهاب الصغاني عنه، وعبد الوهاب كذاب، وللحديث طرق أخرى عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رواه يوسف بن أبان، حدثنا الأبرد بن حاتم، أخبرني منهال السراج عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر قال nindex.php?page=showalam&ids=14467السخاوي، وبالجملة فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=14798العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث بهز ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه من طريق تثبت .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب بسند جيد عن الحسن أنه قال: ليس في أصحاب البدع غيبة، ومن طريق nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة أنه قال: ثلاثة ليس لهم غيبة: الإمام الجائر، والفاسق المعلن بفسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته. ومن طريق nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم قال: إنما الغيبة لمن يعلن بالمعاصي، ومن طريق nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة قال: الشكاية والتحذير ليسا من الغيبة، وقال عقبة: هذا صحيح، فقد يصيبه من جهة غيره أذى فيشكوه ويحكي ما جرى عليه من الأذى، فلا يكون ذلك حراما، ولو صبر عليه كان أفضل، وقد يكون مزكيا في رواة الأخبار والشهادات فيخبر بما يعلمه من الراوي أو الشاهد ليتقي خبره أو شهادته، فيكون ذلك مباحا، والله أعلم .
(وقد قال الله تعالى: وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) قيل: سر التطوع وعلانية الصدقة المفروضة (فهذا ندب إلى العلانية أيضا؛ لما فيه من فائدة الترغيب) والتحريض لأمثاله على مثل ذلك، (فليكن العبد) العارف (دقيق التأمل في وزن الفائدة بالمحذور الذي فيها) هل يتساويان أو يرجح أحدهما على الآخر، (فإن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص) ، أي: باختلافهما (فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل) بهذا الاعتبار (ومن عرف الفوائد) المثمرة (والفوائد) المهلكة (ولم ينظر بعين الشهوة) النفسية بل عزلها عن مداخلتها [ ص: 118 ] في هذا المعنى (اتضح له الأولى) منها، وظفر (الأليق) فيهما (بكل حال) ، وحيث انتهينا من حل كلام المصنف في هذا الفصل، فاعلم أنه في جميع ما أورده تبع فيه صاحب القوت nindex.php?page=showalam&ids=15166والمحاسبي والقشيري ولم يرتضه الشيخ الأكبر -قدس سره-، ورد عليهم هذا التقسيم في كتاب الشريعة، وهذا نص عبارته في الكتاب المذكور قال: وأما أحوال أهل الصدقة في الجهر بها والكتمان فتهم من يراعي صدقة السر لأجل ثناء الحق على ذلك في الخبر الحسن الذي يتضمن أنه لا تدري ما تنفق يمينه، وما جاء في صدقة السر واعتناء الله بذلك فيسر بها؛ لعلم الله في ذلك لا من طريق الإخلاص؛ فإن القوم منزهون عن الشرك في الأعمال لمشاهدتهم الحق في الأعمال، فيعلمون أن الحق ما ذكر باب السر في مثل هذا وفضله على الإعلان إلا العلم له تعالى في ذلك، وإن لم يطلع عليه مع التساوي في حالتي الجهر والسر لصدق العلم بالله ومعرفة من يعطي ومن يأخذ، ومن هذا الباب ذكر الله في النفس والملأ الوارد في الخبر، وأما صاحب الإعلان في الصدقة فليس هذا مشهده ولا أمثاله، وإنما الغالب على قلبه مشاهدة الحق في كل شيء، فكل حال عنده إعلان بلا شك ما يشهد غير هذا، فيعلن بالصدقة كما يذكره بالملأ، فإنه من ذكره بالملأ فقد ذكره في نفسه، وما كل من ذكره في نفسه ذكره في الملأ، فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي، لها مرتبة تفوق صاحب ذكر النفس، فإن ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالتين، فهو سر بكل وجه، فصدقة الإعلان تؤذن بظهور الاقتدار الإلهي فعمن يخفيها أو يسرها، وهو الظاهر في المظاهر الإمكانية: قل الله ثم ذرهم أغير الله تدعون وأما ما يذكره عامة أهل الطريق، مثل أبي حامد nindex.php?page=showalam&ids=15166والمحاسبي وأمثالهما من العامة من الرياء في ذلك، فإنما ذلك خطاب بلسان العامة الجهلاء ما هو لسان أهل الله، ونحن إنما نتكلم مع أهل الله في ذلك، ولقد كان شيخنا يقول لأصحابه: أعلنوا الطاعة كما يعلن هؤلاء بالمعاصي؛ فإن كلمة الله هي العليا .
قال بعضهم لأصحاب شيخ مقبر: بماذا كان يأمركم الشيخ؟ قال: كان يأمر بإخفاء الأعمال ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بإظهار الأعمال ورؤية مجريها ومنشئها على أيديكم؟ فهذا من هذا الباب، فقد نبهتك على السر والإعلان في العطايا مع الخلاف بين علماء الرسوم في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع، وهو مشهور لا يحتاج إلى ذكره، وأما الكامل من أهل الله فهو الذي يعطي بالحالتين ليجمع بين المقامين، ويحصل النتيجتين وينظر بالعينين، فيعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق آثر فيه الإعلان، ويسر في وقت في الموضع الذي يرى الحق تعالى آثر فيه الإسرار، وهو الأولى بالمكمل من أهل الله اهتلت، والحق أن ما ذكره المصنف هو تسليك للمريد السالك في طريق الآخرة؛ نظرا إلى أنه لا ينفك غالب أحواله من الاتصاف بما لا يجوز به له الدخول في الحضرة الإلهية، فمثل هذا لا يغلب على قلبه مشاهدة الحق في كل شيء، وإن ما ذكره الشيخ -قدس سره- فهو مسلم أيضا، وهو مشهد كل العارفين الذين جازوا هذه المفاوز وقطعوا تلك الفيافي، فهم يشهدون في المظاهر والتعينات ما لا يدخل تحت وزن، فقد يكون المحذور عندهم عين المحضور والمنظور، فلا معارضة بين الكلامين؛ لأن كلا منهما باعتبارين مختلفين، ومع ذلك فالأذواق تختلف باختلاف المشارب، وللناس فيما يألفون مذاهب، والله أعلم .