إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة العاشرة أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كيما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره ، ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة .

وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له من نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون .

والعلوم بالإضافة إلى سعادة لقاء الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم أعني النظر الذي طلبه الأنبياء وفهموه دون ما سبق إلى فهم العوام والمتكلمين على ثلاث مراتب تفهمها بالموازنة بمثال وهو أن العبد الذي علق عتقه وتمكينه من الملك بالحج وقيل له إن حججت وأتممت وصلت إلى العتق والملك جميعا وإن ابتدأت بطريق الحج والاستعداد له وعاقك في الطريق مانع ضروري فلك العتق والخلاص من شقاء الرق فقط دون سعادة الملك فله ثلاثة أصناف من الشغل .

الأول تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الراوية وإعداد الزاد والراحلة .

و الثاني السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه إلى الكعبة منزلا بعد منزل .


( الوظيفة التاسعة) من [ ص: 328 ] وظائف المتعلم التسعة ( أن يعلم بنسبة العلوم) كلها ( إلى المقعد) الأعظم ويميز بين كل من ذلك ( كيما يؤثر) أي: يختار ( الرفيع القريب على البعيد) الوضيع، ( والمهم) المقصود بالذات ( على غيره، ومعنى المهم) لغة: ( ما) يهمك أي: يحزنك فيما نويته وأردته وعزمت عليه في نفسك ( ولا يهمك إلا شأنك) الذي أنت فيه وعليه ( في الدنيا والآخرة) أي: فيما يتعلق بهما، ولذا أجاب الشافعي حين قال: ما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن، وسئل عن ذلك أن المرء لا يخلو إما أن يكون مهتما في أمور دنياه أو أمور آخرته ولا خير في غيرهما وهما لا يبقيان شحهما .

هكذا ذكره غير واحد .

وأورده الخطيب في "تاريخه"، ولذا كان أصدق الأسماء همام والحارث، ( وإذا لم يمكن الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة) لأن ملاذ الدنيا زائلة فمن آثرها على نفسه حرم نعيم الآخرة فهما كالمتضادين لا يجتمعان بحسب الكمال فما نقص من الملاذ الدنيوية زيد له في النعيم الأخروي، ومن اختار النعيم الأخروي لم ينظر إلى ملاذ الدنيا، وهذه أغلبية وإلا فمنهم من يجمع الله له بينهما، فهو سعيد الدنيا والآخرة كما أن منهم من يشقى فيهما جميعا فأحرق دنياه وآخرته ( كما نطق به القرآن) في غير ما موضع ( وشهد له) أي: لصدقه ( من نور البصائر ما يجري مجرى العيان) والمشاهدة ( فالأهم) في الحقيقة ( ما يبقى) نفعه ( أبد الآباد) بلا نفاد، ( وعند ذلك تصير الدنيا) في التشبيه والتمثيل ( منزلا) نزله ليتجاوز إلى غيره ( و) هذا ( البدن) الذي ركب فيه الروح ( مركبا ركبه) ليوصله إلى مراده ( والأعمال) الصادرة منه ( سعيا) يسعى بها ( إلى المقصد) الأعظم، ( ولا مقصد) في الحقيقة ( إلا لقاء الله تعالى) والغناء فيه، دونه تقطع الأعناق ويضيق عن وصفه النطاق ( ففيه النعيم كله) وما عداه زائل لا يعتد به ( وإن كان لا يعرف في هذا العلم) كما ينبغي، وفي نسخة في هذا العالم قدره ( إلا الأقلون) وقليل ما هم (والعلوم بالإضافة) والنسبة إلى ( سعادة لقاء الله عز وجل) في دار كرامته ورضوانه ( والنظر إلى وجهه الكريم) من غير حجاب ( أعني) أي: أريد بالنظر ( النظر الذي طلبه الأنبياء) صلوات الله عليهم بما يليق بمقاماتهم العلية، ( وفهموه) إرشادا من الله الكريم وهي المعرفة الخاصة بعد الفحص ( دون ما سبق إلى فهم العوام والمتكلمين) .

قال بعضهم: استعمال النظر في البصر وهو تقليب الحدقة وتوجهها إلى المنظور إليه أكثر عند العامة وفي البصيرة أكثر عند الخاصة فنظر الخواص غير نظر العوام ( على ثلاث مراتب تفهمها بالموازنة بمثال) أي: بضرب مثال يوازنها ليكون أدخل في الأذهان وأسرع إلى معرفتها ( وهو أن العبد) مثلا ( الذي علق عتقه) من الرقبة ( وتمكينه من الملك) بضم الميم ( بالحج) متعلق بقوله علق ( و) قد فسر ذلك بقوله ( قيل له) أي: لذلك العبد ( إن حججت) بيت الله الحرام ( وتممت) المناسك كلها أداء ( وصلت إلى العتق والملك جميعا) أي: إلى المقصدين العظيمين ( وإن ابتدأت) شرعت السفر ( بطريق الحج والاستعداد له) بإحضار الزاد والراحلة ( وعاقك) أي: منعك ( في الطريق مانع) وفي نسخة: عائق وهو بمعناه ( ضروري) اضطرك إلى ذلك ( فلك العتق فقط و) هو ( الخلاص من شقاء الرق) وتعبه ( دون سعادة الملك) وبين السعادة والشقاء تضاد ( فله) أي: لهذا العبد المذكور ( ثلاثة أصناف من الشغل) الشغل ( الأول تهيئة الأسباب) والاستعداد لها ( بشراء الناقة) أو ما في حكمها ( وخرز الراوية) لحمل الماء أو شرائها مخروزة ( وإعداد الزاد) ما يقوت به نفسه في الطريق على قدر الحال فمجموع ما ذكر أول أشغاله وتندرج في تلك أشغال أخرى ( والآخر) أي: الشغل الثاني ( السلوك) أي: المشي ( ومفارقة الوطن) والأهل والأصحاب ( بالتوجه إلى) سمت ( الكعبة) المشرفة ( منزلا بعد منزل) ومنهلا بعد منهل .

التالي السابق


الخدمات العلمية