وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز بها فيعطى إن كان فقيرا وإن كان له مال ببلد آخر أعطي بقدر بلغته .
ثم قال المصنف رحمه الله:
(الصنف الثامن: ابن السبيل) سمي به من ذكر بعد؛ لملازمته له، فصار كأنه ولده كما يقول الصوافي: ابن وقته، (وهو) شخصان أحدهما (الذي شخص) أي: خرج (من بلده) أو بلد كان مقيما به، (مسافرا) أي: منشئا للسفر، فهذا يعطى قطعا، ويشترط أن يكون سفره (في غير معصية) فيعطى في سفر الطاعة، وكذا في المباح كالتجارة وطلب الآبق على الصحيح، فإذا قلنا: يعطى في المباح، ففي سفر التنزه وجهان؛ لأنه ضرب من [ ص: 152 ] الفضول، والأصح أنه يعطى الثاني. أشار إليه المصنف بقوله: (أو اجتاز) أي: غريب اجتاز (فيه) أي: في البلد، فيعطى أيضا على المذهب، وقيل: إن جوزنا نقل الصدقة جاز الصرف إليه وإلا فلا، لكن (إن كان فقيرا) لا مال له أصلا، ولا ما يحتاج له في سفره، (و) كذا (إن كان له مال ببلد آخر) غير المنتقل منه (أعطي بقدر بلغته) ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة: ابن السبيل هو المجتاز دون المنشئ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد روايتان كالمذهبين، أظهرهما: المجتاز، واختاره الوزير ابن هبيرة، وقال: هو الصحيح، قال شارع الكنز من أصحابنا: جاز للمسافر الأخذ من الزكاة قدر حاجته، وإن كان له مال ببلد بعيد إن لم يقدر عليه في الحال، ولا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته؛ لأن الحاجة هي المعتبرة وقد وجدت؛ لأنه فقير يدا وإن كان غنيا، ثم لا يلزمه أن يتصدق بما فضل في يده عند قدرته على ماله كالفقير إذا استغنى، أو المكاتب إذا عجز. اهـ .
وفي شرح المختار: ابن السبيل غني ملكا، تجب الزكاة في ماله، ويؤمر بأدائها إذا وصل إليه، وهو فقير يدا حتى تصرف إليه الصدقة في الحال لحاجته، وفي المحيط: وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا، يحل له أخذ الزكاة؛ لأنه فقير يدا كابن السبيل. اهـ .
قال في فتح القدير: وهو أولى من جعله غارما .
(تنبيه)
قال شارح المجمع: اعلم أن المذكورات مصارف العشور والزكوات، وما أخذ العاشر من تجار المسلمين، وإن مصارف خمس الغنائم والمعدن ثلاثة؛ لأن سهم الله ورسوله واحد في قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وسهم الرسول وذوي القربى ساقط فبقي ثلاثة، وأما مصارف ما أخذ مما أخرجته الأرض وجزية الرؤوس وما أخذ العاشر من تجار أهل الذمة والمستأمن بمصالح المؤمنين من سد الثغور وعمارات الرباط والجسور وأرزاق العلماء النافعين والقضاة العادلين والمقاتلة والمحتسبين، وأما مصارف بيت المال فمعالجة المرضى وأكفان الموتى ونفقة اللقيط ومن هو عاجز عن الكسب، والواجب على الأئمة أن يجعلوا كل نوع من الأموال المذكورة بيتا على حدة، فيصرفوا كلا منها في مصرفه، ولو خلطوها ولم يراعوها يكون ظلما، والله أعلم .
هم أبناء طريق الله، ونصيبهم من الزكاة التي هي الطهارة الإلهية، ثم لتعلم أن الأمور التي يتصرف فيها الإنسان حقوق الله كلها، غير أن هذه الحقوق وإن كانت كثيرة فإنها بوجه ما منحصرة في قسمين: قسم منها حق الخلق لله، وهو قوله عليه السلام: nindex.php?page=hadith&LINKID=651839إن لنفسك عليك حقا، ولعينيك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، والقسم الآخر: حق الله لله، وهو قوله عليه السلام: لي وقت لا يسعني فيه غير ربي، وهذا الحق الذي لله هو زكاة الحقوق التي للخلق لله، وهذه الحقوق بجملتها في ثمانية أصناف: العلم والعمل، وهما بمنزلة الذهب والفضة، ومن الحيوان الروح والنفس والجسم في مقابلة الغنم والبقر والإبل، ومن النبات الحنطة والشعير والتمر، وفي الاعتبار: ما تنبته الأرواح والنفوس والجوارح من العلوم والخواطر والأعمال، فالغنم للروح والبقر للنفس والإبل للجسم، وإنما جعلنا الغنم للأرواح؛ لأن الله تعالى جعل الكبش قيمة روح نبي مكرم، فقال: وفديناه بذبح عظيم فعظمه وجعله فداء ولد إبراهيم، نبي ابن نبي عليهما السلام، فليس في الحيوان بهذا الاعتبار أرفع درجة من الغنم، وهي ضحايا هذه الأمة، ألا تراها أيضا قد جعلت حق الله في الإبل؟! وهو في كل خمس ذود شاة، وجعلت من الإبل فداء نفس ليس برسول ولا نبي، فانظر أين مرتبة الغنم من مرتبة الإبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=662687أمرنا بالصلاة في مرابض الغنم، والصلاة قربة إلى الله تعالى وأماكنها مساجد الله، فمرابض الغنم من مساجد الله، فلها درجة القربة، والإبل ليست لها هذه المرتبة وإن كانت أعظم خلقا؛ ولهذا جعلناها للأجسام، ألا ترى أن من أسمائها البدنة والجسم يسمى البدن، والبدن من عالم الطبيعة، بينها وبين الله درجتان: النفس والعقل، فهي في ثالث درجة من القرب، وأما كون البقر في مقابلة النفوس وهي دون الغنم في الرتبة وفوق الإبل؛ كالنفس فوق الجسم ودون العقل الذي هو الروح الإلهي، وذلك أن بني إسرائيل لما قتلوا نفسا وتدافعوا فيها أمرهم [ ص: 153 ] الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا الميت ببعضها، فيحيا بإذن الله، فلما حي به نفس الميت عرفنا أن بينها وبين النفوس نسبة فجعلناها للنفس، ثم إن الروح الذي هو العقل يظهر عنه مما زرع الله فيه من العلوم والحكم والأسرار ما لا يعلمه إلا الله، وهذه العلوم كلها منها ما يتعلق بالكون ومنها ما يتعلق بالله، وهم بمنزلة الزكاة من الحنطة؛ لأنها أرفع الحبوب، وإن النفس يظهر عنها مما زرع الله فيها من الخواطر والشهوات ما لا يعلمه إلا الله، فهذا نباتها، وهو بمنزلة التمر، وزكاة الله منها الخاطر الأول، ومن الشهوات الشهوة التي تكون لأهل الله، وإنما قرناها بالتمر؛ لأن النخلة هي عمتنا فهي من العقل بمنزلة النخلة من آدم، فإنها خلقت من بقية طينة، وأما الجوارح فزرع الله تعالى فيها الأعمال كلها فأنبتت الأعمال، وحظ الزكاة منها الأعمال المشروعة التي يرى الله فيها، فهذه ثمانية أصناف تجب فيها الزكاة، فأما العلم الذي هو بمنزلة الذهب فيجب فيه ما يجب في الذهب، وأما العمل الذي هو بمنزلة الفضة فيجب فيه ما يجب في الورق، وأما الروح فيجب فيها ما يجب في الغنم، وأما النفس فيجب فيها ما يجب في البقر، وأما الجوارح فيجب فيها ما يجب في الإبل، وأما ما ينتجه العقل من المعارف وينبته من الأسرار فيجب فيه ما يجب في الحنطة، وأما ما تنتجه النفس من الشهوات والخواطر وتنبته من الواردات فيجب فيه ما يجب في التمر، وأما ما تنتجه الجوارح من الأعمال وتنبته من صور الطاعات وغيرها فيجب فيها ما يجب في الشعير، واعلم أن الأوقات في طريق الله للعلماء العاملين بمنزلة الأقوات لمصالح الأجسام الطبيعية، وكما أنه بعض الأقوات هو عين زكاة ذلك الصنف، كذلك الوقت الإلهي هو زكاة الأقوات الكيانية، فإن في الوقت أغذية للأرواح كما في الأقوات أغذية للأشباح، وغذاء الجوارح الأعمال، والعلم والعمل معدنان بوجودهما تنال المقاصد الإلهية في الدنيا والآخرة، كما أن بالذهب والفضة ينال جميع المقاصد من الأعراض والأغراض، والله أعلم .