الأولى : : أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه ويجعل همومه هما واحدا فقد تعبد الله عز وجل الخلق بأن يكون همهم واحدا ، وهو الله سبحانه واليوم الآخر وهو المعني بقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولكن لما اقتضت الحكمة أن يسلط على العبد الشهوات والحاجات وهي تفرق همه اقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمي المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقا له وعونا . له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله عز وجل فإن استعان به على معصية الله كان كافرا لأنعم الله عز وجل ، مستحقا للبعد والمقت من الله سبحانه .
(بيان وظائف القابض) أي: الآخذ للزكاة (وهي خمسة: الأول: أن يفهم أن الله عز وجل) إنما (أوجب صرفه إليه) في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ (ليكفي) بذلك (همه) الذي يعرض له، (ويجعل همومه) المتشعبة كلها (هما واحدا) ، وحينئذ يسهل عليه دفع الخاطر إذا ورد من باب واحد لتفرغ القلب في دفعه، بخلاف ما إذا كانت هموما كثيرة، فإنه إن اشتغل بدفع واحد عارضه الثاني، فيتشتت حاله، ويقع بسببه في تفرقة ويصعب علاجه، (فقد تعبد الله الخلق بأن يكون همهم واحدا، وهو) أي: ذلك الواحد (الله سبحانه واليوم الآخر) ، فقد روى nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=14155والحكيم الترمذي والشاشي nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود مرفوعا: nindex.php?page=hadith&LINKID=680609من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: nindex.php?page=hadith&LINKID=680609من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله ما أهمه في أمر الدنيا والآخرة، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك. (وهو المعنى) أي: المراد (بقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أن يقصدوني بعبادتهم وتذللهم فأكفي مؤنتهم وهمومهم، (ولكن لما اقتضت الحكمة) الإلهية الرحمانية (أن يسلط على العبد الشهوات) النفسية (والحاجات) الظاهرية حيث كان مؤمنا بطبعه، (وهي) أي: كل من الشهوات والحاجات (تفرق همه) ؛ فالنفس الشهوانية تطلب نكاحا وأكلا وشربا ولبسا وسكنى وغير ذلك من الطوارئ الحسية والمعنوية، (اقتضى الكرم) الحقيقي الأصلي (إفاضة نعمه) من الفيض المطلق (تكفي الحاجات) كلها، والهموم إنما تحدث بسبب تلك الحاجات (بأكثر الأموال) الظاهرة والباطنة، (وصبها في أيدي عباده) ، وملكها لهم على وجه التعميم، فمن وجه هي عارية مستردة ومن وجه منحة منحوا بها؛ (لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم) ، فينتفعوا بها مدة، ويذروها لينتفع بها غيرهم، (و) من وجه وديعة في أيديهم رخص لهم استعمالها والانتفاع بها بعد أن لا يسرف فتكون وسيلة (لتفرغهم لطاعاتهم) المأمورين بها، وانقسم هؤلاء قسمين (فمنهم من أكثر ماله) وأعراضه (فجعله فتنة وبلية) ؛ حيث اغتر بها من جهله ونسيانه لما عهد إليه، ولم يجد له عزما، فظن أن جعلت له هبة مؤبدة، فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤد أمانة الله فيها، ولما طولب بردها تضرر منه وضجر، فلم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده، (فأقحمه في الخطر) والهلاك، (ومنهم من) وفقه فحفظ ما عهد إليه، فتناوله تناول العارية والمنحة والوديعة فأدى فيه الأمانة، وعلم أنه مسترجع، ومنهم من (أحبه فحماه من الدنيا) وأعراضها (كما يحمي المشفق) الخائف (مريضه) من تعاطي ما يضره، (فزوى) أي: أبعد (عنه فضولها) أي: الدنيا، وهي الزائدة على قدر الكفاية، فالمراعون [ ص: 155 ] لأمور الدنيا والآخرة على ثلاثة أضرب: فالأول هم المنهمكون في الدنيا بلا التفات منهم في العقبى، وهم المسمون عبدة الطاغوت وشر الدواب ونحوها من الأسماء، والثاني وهم المتوسطون وفوا الدارين حقهما، والثالث هم المخالفون للقسم الأول يراعون العقبى من غير التفات منهم إلى مصالح الدنيا، (و) هؤلاء أقسام كثيرة أعظمهم حظا من (ساق) (إليه) رزقه (قدر حاجته) وكفايته وحاجة عياله وكفايتهم (على أيدي الأغنياء) ، إما من أهل القسم الأول أو من القسم الثاني؛ (ليكون شغل المكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم) خاصة، (وفائدته تنصب) وفي نسخة: منصبة (إلى الفقراء ليتجردوا) وفي نسخة: فيتجردون (لعبادة الله تعالى) بتفريغ الخاطر (والاستعداد) أي: التهيؤ (لما بعد الموت) ، وهؤلاء جعلوا الدنيا قنطرة فعبروها ولم يعمروها، (فلا تصرفهم عن ذلك فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة) والحاجة، ومن وصفهم أنهم لا يقدرون على تناول مباح حتى يضطروا إليه، فيتحتم تناوله عليهم، فيصير ما كان مباحا تناوله فرضا عليهم، (وهذا منتهى النعمة) قد بلغوا مقصدهم المذكور في قوله تعالى: وأن إلى ربك المنتهى (فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر) وما خصه الله به، (ويتحقق أن فضل الله تعالى عليه فيما زواه عنه) أي: أبعده (أكثر من فضله فيما أعطاه) ويتفرغ عنه مسألة: هل الفقير أفضل أو الغني الشاكر؟ (كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه فليأخذ ما يأخذه من) يد (الله سبحانه) بواسطة هذا العبد المعطي، (رزقا له) سيق له بإلهامه وإيجابه، (وعونا على الطاعة) ليجمع همومه ويجعلها هما واحدا، (ولتكن نيته فيه) عند أخذه (أن يتقوى به على طاعة الله) عز وجل، (فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله تعالى) أي: يقتصر منها لنفسه على تناول بلغته، ويجعل الباقي مصروفا إلى ما دعي إليه، وهو إذا يصير بذلك من خلفاء الله، (فإن استعان به على معصية الله) وما فيه مخالفة أمر الله (كان كافرا للنعمة، مستحقا للبعد والمقت من الله تعالى) ، فيلتحق بأهل القسم الأول وعد من الهالكين، أعاذنا الله من ذلك بعونه ومنه .