الصدقة اسم من: تصدقت على الفقراء، والجمع الصدقات، وتصدق بكذا: أعطاه صدقة، والفاعل متصدق، ومنهم من يخفف بالبدل والإدغام فيقول: مصدق، قال ابن قتيبة: ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم: هو يتصدق إذا سئل، وذلك غلط، وإنما المتصدق المعطي، وفي التنزيل: وتصدق علينا وأما المصدق فهو الذي يأخذ صدقات النعم .
كذا في المصباح، واختلف في اشتقاقها، فقيل: من قولهم رمح صدق أي: صلب. سميت به؛ لأن خروجها عن النفس بشدة وكراهية، وقيل: فيها غير ذلك، كما ستأتي الإشارة إليه، وقال أبو الحسن الحراني: الصدقة الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن الرزق غيب، وقال ابن الكمال: هي العطية يبتغى بها المثوبة من الله، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب: هو ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل يقال للمتطوع به والزكاة للواجب، ويقال لما يسامح به الإنسان من حقه: تصدق به، نحو قوله: فمن تصدق به فهو كفارة له ، وقوله: وأن تصدقوا خير لكم فإنه أجرى ما يسامح به ويحسن مجرى الصدقة، ومنه قوله: ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فسمى إعفاءه صدقة، وقوله في الحديث: ما أكلت العافية صدقة، والتطوع لغة: تكلف الطاعة، وعرفا التبرع بما لا يلزم كالنفل، قال تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب، وقال ابن الكمال: التطوع اسم لما شرع زيادة على الفرض والواجب. هذا ما يتعلق بالظاهر، وأما ما يتعلق بإسرارها فقد قال الله تعالى آمرا عباده: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا فالقرض هنا صدقة التطوع، وورد الأمر بالقرض كما ورد بإعطاء الزكاة، والفرق بينهما أن الزكاة مؤقتة بالزمان والنصاب والأصناف الذين تدفع إليهم، والقرض ليس كذلك، وقد تدخل الزكاة هنا في القرض، فكأنه يقول: وآتوا الزكاة قرضا لله بها فيضاعفها لكم؛ فالقرض الذي لا يدخل في الزكاة غير مؤقت لا في نفسه ولا في الزمان ولا بصنف من الأصناف، والزكاة المشروعة والصدقة لفظتان بمعنى واحد .
قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال تعالى: إنما الصدقات للفقراء فسماها صدقة، فالواجب منها يسمى زكاة وصدقة، وغير الواجب يسمى صدقة التطوع، ولا يسمى زكاة شرعا؛ أي: لم يطلق عليه الشرع هذه اللفظة مع وجود المعنى فيها من النمو والبركة والتطهير، في الخبر الصحيح: nindex.php?page=hadith&LINKID=652481أن الأعرابي لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن رسوله زعم أن علينا صدقة في أموالنا، وقال له صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال: الأعرابي: هل علي غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع. فلهذا سميت صدقة التطوع، يقول: إن الله لم يوجبها عليكم؛ فمن تطوع خيرا فهو خير له. ولهذا قال تعالى بعد قوله: وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله وإن كان الخير كل فعل مقرب إلى الله من صدقة وغيرها، ولكن مع هذا فقد انطلق على المال خصوصا اسم الخير، قال تعالى: وإذا مسه الخير منوعا وقال تعالى: وإنه لحب الخير لشديد يعني: المال هنا، وجعل الكرم فيه تخلقا لا خلقا؛ حيث قال: ومن يوق شح نفسه ولهذا سماها صدقة، أي: كلفة شديدة على النفس لخروجها عن طبعها في ذلك، ولذا آنسها الحق تعالى بأنها تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل، وأنه يربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تربو فتكون المنة لله على السائل لا للمتصدق، فإن الله تعالى طلب منه القرض، والسائل ترجمان الحق في طلب هذا القرض، فلا يخجل السائل إذا كان مؤمنا من المتصدق، ولا يرى أن له فضلا عليه، فإن المتصدق إنما أعطى لله للقرض الذي سأله وليربيها له، فهذا من الغيرة الإلهية والفضل الإلهي، والأمر الآخر ليعلمه أنها مودعة في موضع تربو له فيه وتزيد، كل هذا ليسخو بإخراجها ويتقي شح نفسه، وفي جبلة الإنسان طلب الأرباح في التجارة ونمو المال؛ فلهذا جاء في الخبر أن الله تعالى يربي الصدقات [ ص: 164 ] ليكون العبد في إخراج المال من الحرص عليه الطبيعي لأجل المعاوضة والزيادة والبركة بكونه زكاة كما هو في جميع المال، وشح النفس من الحرص عليه الطبيعي، فوفق الله به حيث لم يخرجه عما جبله الله عليه، فيرى التاجر يسافر إلى الأماكن القاصية الخطرة المتلفة للنفوس والأموال ويبذل الأموال ويعطيها؛ رجاء في الأرباح والزيادة ونمو المال، وهو مسرور النفس بذلك، فطلب الله منه المقارضة بالكل؛ إذ قد علم منه أنه يقارض بالثلثين والنصف، فيكون قرضه بمن يقارضه بالكل أتم وأعظم، فالبخيل بالصدقة بعد هذا التعريف الإلهي وما تعطيه جبلة النفوس من تضاعف الأموال دليل على قلة الإيمان عند هذا البخيل مما ذكرناه؛ إذ لو كان مؤمنا على يقين من ربه مصدقا له فيما أخبر به عن نفسه في قرض عبده وتجارته لسارع بالطبع إلى ذلك كما يسارع به في الدنيا مع إشكاله عاجلا وآجلا؛ فإن العبد إذا قارض إنسانا بالنصف أو بالثلث وسافر المقارض إلى بلد آخر وغاب سنين، وهو في باب الاحتمال أن يسلم المال أو يهلك أو لا يربح شيئا، وإذا هلك المال لم يستحق في ذمة المقارض شيئا، ومع هذه الاحتمالات يعمى الإنسان ويعطي ماله وينتظر ما لا يقطع بحصوله، وهو طيب النفس مع وجود الأجل والتأخير والاحتمال، فإذا قيل له: أقرض الله وتأخذ في الآخرة أضعافا مضاعفة بلا ثلث ولا نصف بل الربح ورأس المال كله لك، وما تصبر إلا قليلا وأنت قاطع بحصول ذلك كله؛ تأبى النفس وما تعطي إلا قليلا، فهل ذلك كله إلا من عدم حكم الإيمان على الإنسان في نفسه؛ حيث لا يسخو بما تعطيه جبلته من السخاء به، ويقارض زيدا وعمرا كما ذكرنا طيب النفس، والموت أقرب إليه من شراك نعله؟! ولهذا سماها الله صدقة أي: هو أمر شديد على النفس، أي: تجد النفس لإخراج هذا المال لله شدة وحرجا، كما قال ثعلبة بن حاطب أو غيره في الزكاة أنها أخت الجزية، فأعقبه الله لهذه الكلمة نفاقا في قلبه إلى يوم القيامة، فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته بعد ذلك لما جاء بها، حين بلغه ما أنزل فيه، وسبب ذلك أن الله تعالى أخبر في حقه أنه يلقاه منافقا، والصدقة إذا أخذها النبي صلى الله عليه وسلم طهره بها وزكاه وصلى عليه، وكانت صلاته سكنا يسكن المتصدق إليها، وهذه أوصاف كلها تناقض النفاق، وما يجده المنافق عند الله، فلم يتمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منه الصدقة لما جاء بها بعد منعها .
وقوله ما قال وامتنع منها أيضا فلم يأخذها منه حين جاء بها أبا بكر في خلافته، nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر، وأخذ منه عثمان الصدقة متأولا أنها حق الأصناف الذين أوجب الله لهم هذا القدر في غير هذا المال، وهو من جملة ما انتقد عليه، وينبغي للمجتهد أن لا ينتقد عليه في حكم إذا أداه إليه اجتهاده، فإن الشرع قد قدر حكم المجتهد، والنبي صلى الله عليه وسلم ما نهى أحدا أن يأخذ من هذا الشخص صدقته، وقد ورد الأمر بإخراج الزكاة، وحكم النبي في هذه الأمور قد يقارن حكم غيره، وقد يختص صلى الله عليه وسلم من ذلك بأمور لا تلزم الغير؛ لخصوص وصف تقتضيه النبوة، فمن شاء وقف لوقوفه ومن شاء لم يقف، ومضى لأمر الله العام في ذلك؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه أحدا ولا أمره فيما توقف فيه واجتنبه، فساغ الاجتهاد وراعى كل مجتهد ما غلب على ظنه، فمن خطأ عثمان فما وافى المجتهد حقه، فإن المصيب والمخطئ واحد لا بعينه هذا، وقد علمت أن الزكاة من حيث هي صدقة شديدة على النفس، فإذا أخرجها الإنسان تضاعف له الأجر، وإن أخرجها من غير مشقة فمثل هذا فوق تضاعف الأجر بما لا يقاس ولا يحد، وأما أمره سبحانه أن نقرضه قرضا حسنا، فالإحسان في العمل أن تشاهد الله فيه، وهو أن يعلم أن المال مال الله، وما ملكته إلا بتمليك الله، وبعد التمليك نزل إليك في ألطافه لباب المقارضة، يقول لك: لا يغيب عنك طلبي منك القرض في هذا المال ما تعرفه من أن المال هو عين مالي ما هو مالك، فكما لا يعز عليك ولا يصعب إذا رأيت أحدا يتصرف في ماله كيف شاء، كذلك لا يعز عليك ولا يصعب ما أطلبه منك مما جعلتك مستخلفا فيه عن معرفتك بأن ما طلبت منك إلا ما هو مالي لأعطيه لمن أشاء من عبادي، فإن هذا القدر من الزكاة ما أعطيته قط لك بل أمنتك عليه، والأمين لا يصعب عليه أداء الأمانة إلى أهلها، فإذا جاءك المصدق الذي هو وكيل [ ص: 165 ] أرباب الأمانات؛ فأد إليه أمانته عن طيب نفس، فهذا هو القرض الحسن، وقد جاء في الخبر الصحيح في معنى الإحسان: nindex.php?page=hadith&LINKID=650048أن تعبد الله كأنك تراه؛ لأنك إذا رأيته علمت أن المال ماله، والعبد عبده، والتصرف له ولا مكره له، وتعلم أن هذه الأشياء لا يعود على الله منها نفع ولا إذا أمسكت ضرر، وأن الكل يعود عليك، فالزم الأحسن إليك تكن محسنا لنفسك، وإذا كنت محسنا كنت متقيا أذى شح نفسك، فيجمع لك هذا الفعل الإحسان والتقوى، فيكون الله معك، كما قال: إن الله مع الذين اتقوا ومن المتقين من يوق شح نفسه بأداء زكاته والذين هم محسنون وهم الذين عبدوني كأنهم يروني وشاهدوني، ومن جملة شهودهم إياي علمهم بأني ما كلفتهم التصدق إلا فيما هو لي، لا فيما هو لهم، ولهم الثناء الحسن على ذلك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .